هاني سالم مسهور
بيروت وعدن في وجدان جيزال خوري
منذ المرة الأولى التي التقيت فيها بالراحلة الزميلة جيزال خوري، يرحمها الله، لم تكف عن انتقادي حول التقصير في الكتابة عن تجربة اليسار في اليمن الجنوبي، وحتى ما قبل رحيلها بثلاثة أشهر التقيتها في المرة الأخيرة بأبوظبي، وأخذتني في حديث طويل حول مقالتي «الحضرمي يسارياً»، ناقشتني في ما لم يكن يخطر ببالي، فلم تنس أني كنت قد قلت لها بأني تتلمذت على كتابات شكيب أرسلان أمير البيان وساطع الحصري وقسطنطين زريق، ويبدو أنها لم تغادر هذه الدائرة فهي ترى عدن تماثل بيروت بإفرازاتها الفكرية، وأن التقصير تتحمله النخبة الصحفية الجنوبية المعاصرة التي لم تقدم قراءات تاريخية توازي الإرث السياسي والثقافي لليمن الجنوبي.
قد أوافق الراحلة جيزال خوري في التقصير، فلقد ظلمنا تاريخنا السياسي في عدن وحضرموت بمفاعيل السخط أحياناً والخوف من بقايا الرجعية أحياناً أكثر.
هذا الظلم لم يأتِ من العدم فلقد أغلقت النوافذ لتقديم تاريخ هذا الجزء من العالم العربي، ثمّة ما لا أحد يجرؤ على الحديث عنه بأن التجربة اليسارية والماركسية ليست جرماً بحق الحاضر بمقدار ما هي تجربة ثرية أردفت التيار الناصري في حقبة تاريخية محددة لولاها لما كانت البلدان العربية استطاعت أن تتخلص من الاستعمار الأجنبي.
القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وعدن شكلت حواضن فكرية في القرن العشرين صنعت واقعنا المعاصر مهما كانت الحالة النقدية الحادة لتلك المرحلة، الفلسفة الوجودية والوضعية والماركسية كانت أكثر من مجرد أفكار خاضت فيها النخب لتكون رافداً قوياً في الحقبة الناصرية، استقلال العراق ولبنان وسوريا في الثلاثينيات والأربعينيات وفر الأوعية لتلكم النخب لتقدم أفكارها رغماً عن المستعمر الأجنبي، إسهامات غزيرة وضعت في سياق رغبة عميقة شعبية للتحرر الوطني.
المستعمرون البريطانيون والفرنسيون لم يتوقعوا أن ما قدمّه شيخان الحبشي في عدن من رؤية وطنية، ولم يستوعبوا آنذاك ما قدمه جورج حبش من قيّم فكرية أسست على الواقع السياسي حركة القوميين العرب التي كان من مؤسسيها الأوائل علي سالم البيض وقحطان الشعبي أول رئيس لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وعند هذين الشخصين استوقفتني الراحلة جيزال خوري طويلاً في ما شكله الجنوب العربي من حوامل سياسية دفعت ما بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 نحو تقرير مصير الشعوب العربية.
هذا الإرث الذي شكّل الأحزاب «البعثية» العربية كان رادفاً لدفع النزعة الوطنية للتحرر والخلاص من المستعمر، هذه القيمة السياسية الكبيرة أهملت لاحقاً من قبلنا كجيل جاء خلفاً للآباء المؤسسين في الجنوب العربي، وهذه ليست لقطة أخرى لجلد الذات بمقدار ما هي لالتقاطه في دواعي استيراد الإرث وللمضي على الأثر، وتقييم النتائج السياسية بعقول معاصرة. وهنا أذهلتني السيدّة جيزال عندما قالت «انظر إلى جانب الصورة اليوم في عدن وبيروت وسترى أنهما حصلتا من تلكم الأيام على الحصانة اللازمة للبقاء».
الحرب الأهلية اللبنانية تماثلها أحداث يناير 1986 في عدن، وكلاهما برغم أنهما كانتا حربين مدمرتين فإن المدينتين أعادتا تكوين ذاتيهما وإنتاج مسارات سياسية متجددة، والحصانة الليبرالية في ثقافات المدن التي احتضنت الفكر القومي العربي هي المركز القوي الذي يمكنه دائماً مقاومة الأفكار الرجعية والإسلاموية، وعند هذه النظرة تراهن الراحلة وهي التي كانت تأمل بإجراء حوار آخر مع علي سالم البيض ليروي شهادته التاريخية بين دفتي الاستقلال الأول والثاني، هذه الرغبة لن تكون واقعاً فلقد رحلت السيّدة جيزال خوري ولم تحصل لها فرصة معاينة عدن التي رغبت بزيارتها وحثت على بعْث هويتها المدنية، فمدن النور لا يمكن أن تطفئها أرمدة الجهل، ومع الوداع الأخير للبيروتية الرائعة سيبقى عهد ببعث الإرث لمدن النور فالراحلون خالدون فيها.