هاني سالم مسهور
الكهنوت السياسي
لا تبدو مرحلة الإفاقة من «الصحوة الإسلامية» سهلة كما توقعت أوساط فكرية عربية، انكشاف حقيقة جماعة «الإخوان» وسقوطها السياسي لا يلغي أن هناك ما يجب أن يطرح بشفافية ووضوح. التركة الكبيرة التي خلفتها «الصحوة» لا يمكن التعامل معها على اعتبار أنها من الممكن تفكيكها بتحول مجتمعي متسارع.
هذه الجماعات أخضعت المجتمعات العربية لحالة انصياع فكرية ترتكز على التبعية المطلقة، تحريم التفكير وتجريم كل التيارات التنويرية لم يكن فعلاً عابراً، فلقد تكرست الإيديولوجية مع نمطية أحادية تضاد كل مخالفيها. الكهنوتية السياسية وإنْ كانت ليست بالظاهرة الطارئة، فلقد عرفتها أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وفي عالمنا العربي تجلت الكهنوتية السياسية من بداية القرن العشرين مع نشأة جماعة «الإخوان» في مصر. التوظيف الديني للسياسة في الفكر الإسلامي تأصل من كتابات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب والقرضاوي ومجموعة من الذين كرسوا «الحاكمية» كأصل من الأصول الدينية، قابلهم التيار الشيعي الذي لم يبتعد عن التأصيل لذات النهج، فكلا الطرفين وإن افترقا مذهبياً، إلا أنهما يمثلان خطاً واحداً في الكهنوتية السياسية.
أحادية التفكير تؤدي إلى التشدد ثم إلى أبعد نقطة من التطرف في الرأي الذي ينعكس رفضاً للآخر، وهنا ثمة تساؤل يجدر أن يطرح: هل فعلاً في السياسة كهنوت وكهنة؟ السياسة وهي علم من العلوم الإنسانية تعتمد على المعرفة وليس على الغيبيات والتكهنات، المعضلة في أن مفهوماً عميقاً يجب استحضاره في الواقعية المبنية على الحقائق، وعند هذه الحقائق يستحيل منطقياً أن يكون المتشدد دينياً أو حتى عرقياً وقبلياً قادراً على استيعاب مكونات السياسة.
في الشرق الأوسط يكثر المنجمون لمآلات السياسة، ففي هذا الجزء من العالم ما أهو أعمق من استيطان الجهل بالأشياء، تنطلق مفاهيم غالبية الناس من موروثات التواريخ السحيقة، صراعات الأمم والحضارات مازالت تسكن كل شيء في هذه المنطقة. حروب «داحس والغبراء» و«البسوس» لا تغادر الأذهان.
فمازالت العنتريات مسيطرة على الأدمغة، ومنها تمكنت الإيديولوجيات من إخضاع المجتمعات وتوجيهها، حتى وإنْ تكررت الأخطاء، فكما أرسل شبان العرب إلى أفغانستان ليكونوا حطباً في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، أعيدت الخطيئة في مناطق أخرى. ولم تنته في سوريا واليمن والعراق، فالدعوات إلى «الجهاد المقدس» يمكن الدفع بها حتى ولو اختلفت الدول على مطربة أو لاعب كرة قدم.
حتى والعرب يستفيقون على ما حدث في 11 سبتمبر 2001 لم يفق العقل السياسي الجمعي، بل إنه لجأ إلى الإنكار بدلاً من مواجهة الحقيقة، الحرب على الإرهاب بقيت محصورة في دائرة مغلقة أحكمها ذات العقل العربي الرافض للتجديد والتغيير، الجمود قرين الجهل، وهو ما تتمسك به القوى التي أخضعت الناس لتوجهاتها وأبقتهم في غرفها لا يستطيعون نقدها أو حتى التمرد عليها.
التنويريون مازالوا متهمين باتهامات معلبة، فهم علمانيون وليبراليون وماركسيون وقوميون، وكلها تُهم تعني أنهم في نظر المتطرفين «كفرة مرتدون». يعرف الجميع الحقيقة، لكنهم لا يريدون مواجهتها لاعتبارات باطنية، فلقد استوطن الخوف من أصحاب العمائم، الإصلاحيين.
من دون القطيعة مع رؤية المتطرفين المغلوطة للتراث العربي والديني، ستبقى المجتمعات العربية أسيرة الإنكار وتبرير الإخفاقات، تجديد الخطاب الديني يتطلب إرادة سياسية تضمن تحقيقه، فالزمن زمن الدول الوطنية بقوانينها ودساتيرها. وبات واضحاً أن الجمود الفكري معطل جوهري لطبيعة التطور والتقدم، فلن يكون هناك تطوير طالما ظلت الناس غير قادرة على التفكير السياسي.