عويس القلنسي

سقطرى والمهرة… عراقة التاريخ وحق الاختيار السياسي

وكالة أنباء حضرموت

ليست سقطرى ولا المهرة طارئتين على التاريخ، ولا هامشًا جغرافيًا يمكن إلحاقه بمشاريع سياسية عابرة أو توصيفات أيديولوجية مستحدثة. فهاتان الأرضان لم تكونا يومًا جزءًا مما يُسمّى سياسيًا بـ«الجنوب العربي» بمفهومه الحديث، بل تنتميان إلى فضاء تاريخي وثقافي مختلف، تشكّل عبر قرون طويلة من الاستقلال النسبي، والهوية الخاصة، والعلاقات المتوازنة مع محيطهما الإقليمي.
لقد عرفت سلطنة المهرة وسقطرى كيانًا سياسيًا قائمًا بذاته منذ قرون، تعاقبت عليه سلالات حاكمة محلية، كان أبرزها سلاطين آل عفرار، الذين حكموا المهرة وسقطرى حكمًا مستقرًا ومعترفًا به إقليميًا ودوليًا، خاصة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ولم تكن تلك السلطنة كيانًا وهميًا، بل دولة ذات سيادة فعلية، عقدت الاتفاقيات، وأدارت شؤونها الداخلية، وحافظت على خصوصية لغتها المهرية والسقطرية، وعاداتها، ونظامها الاجتماعي الفريد.
وتشير الوثائق التاريخية إلى أن السلطنة المهرية السقطرية دخلت في علاقات تعاهدية مع القوى الإقليمية والدولية، ومنها الاتفاقيات المعروفة مع البريطانيين في القرن التاسع عشر، والتي اعترفت صراحة بوجود السلطنة وحدودها ونظام حكمها، دون أن تُلغِ استقلالها الداخلي أو تذيب هويتها السياسية. وهذا الاعتراف الدولي، في سياقه الزمني، يُعد دليلًا واضحًا على رسوخ الكيان وشرعيته التاريخية.
أما جزيرة سقطرى، درة المحيط الهندي، فلم تكن يومًا مجرد جزيرة تابعة، بل كانت قلب السلطنة النابض، ومركزًا حضاريًا وتجاريًا وروحيًا، عرفت لغتها السقطرية الضاربة في القدم، واحتفظت بخصوصيتها البيئية والثقافية النادرة، حتى باتت اليوم إرثًا إنسانيًا عالميًا. ولم تنشأ هذه الخصوصية من فراغ، بل من تاريخ طويل من الإدارة المحلية المستقلة، والتفاعل السلمي مع العالم، دون ذوبان أو تبعية.
إنّ ما جرى لاحقًا من إدماج قسري للسلطنة في كيانات سياسية أكبر، تمّ في لحظة اضطراب إقليمي، ودون استفتاء شعبي حر، ودون مراعاة للإرادة المحلية أو الخصوصية التاريخية. وهو ما يفتح، قانونيًا وأخلاقيًا، باب النقاش المشروع حول حق تقرير المصير، بوصفه مبدأً أصيلًا في القانون الدولي، لا يُسقطه الزمن ولا تغيّره موازين القوى.
من هنا، يقف أبناء المهرة وسقطرى اليوم أمام خيارين واضحين لا غموض فيهما: إما دولة يمنية اتحادية فيدرالية حقيقية، تقوم على الشراكة العادلة، وتمنح الأقاليم حكمًا ذاتيًا واسع الصلاحيات، وتحترم الهوية والموارد والقرار المحلي، دون وصاية أو تهميش؛ وإما استعادة الدولة السقطرية المهرية في إطار حديث ومعاصر، لا يعود إلى أنماط الحكم المطلقة، بل يؤسس لـسلطنة دستورية، يكون فيها السلطان رمزًا للسيادة التاريخية ووحدة الدولة، يملك ولا يحكم، بينما تكون السلطة الفعلية بيد الشعب عبر دستور واضح، وحكومة منتخبة، ورئيس وزراء منتخب خاضع للمساءلة والمحاسبة.
إنّ هذا الطرح لا ينطلق من نزعة انفصالية ضيقة، ولا من عداء لأي مكوّن يمني أو إقليمي، بل من رؤية سياسية عقلانية، تؤمن بأن الاستقرار لا يُفرض بالقوة، وأن الوحدة الحقيقية لا تقوم إلا على الرضا والعدالة والاحترام المتبادل. فسقطرى والمهرة لم تكونا يومًا مصدر تهديد لجوارهما، بل كانتا دائمًا أرض سلام، وحسن جوار، وتوازن.
إنّ تجاهل التاريخ لا يصنع مستقبلًا، وتذويب الهويات لا يبني دولًا مستقرة. وحده الاعتراف بالحقائق التاريخية، واحترام إرادة الشعوب، وبناء أنظمة حكم حديثة وعادلة، هو الطريق الآمن نحو السلام والتنمية والازدهار.
فإما اتحاد عادل يضم الجميع دون إكراه، وإما دولة دستورية سقطرية مهرية حديثة، تستلهم عراقة الماضي، وتبني مستقبلًا يليق بالإنسان والأرض.

مقالات الكاتب