سيف الحاجب
الصراع في اليمن وإشكالية إخضاعه لمناهج البحث في علم السياسة
ليس من السهلِ إخضاع الحالة اليمنية، بما تمثّله من أبعادٍ وارتباطات إقليمية وصراع داخلي، لأي منهجٍ بحث علمي عند محاولة دراسة الأزمة اليمنية أو البحث في موضوع الصراع باليمن بطريقة منهجية تحكمها قواعدُ البحث وتحدد أبعادها وحدودها أسس الدراسات العلمية وشروط الأبحاث في مجال العلوم السياسية كعلمٍ له منهجيته الخاصة في دراسة الظواهر السياسية.
طبيعةُ الصراع في اليمن ودراسته، كحالة سياسية، رغم ما يشكّله من صعوبة على الباحثين في التعاطي العلمي والمنهجي مع كهذا واقع معقد متعدد الأطراف والتحالفات ومتناقض حتى في تحالفاته... إلا أنه قد يشكل إضافة نوعية جديدة لعلم السياسة وللباحثين والدارسين والطلاب في العلوم السياسية؛ إذ تتطلّب الحالة اليمنية من الباحث فيها إلى ابتكار نوع جديد من المنهجية العليمة لاستيعاب كل ذلك الصراع وأطرافه المحلية وتشعباته وتداخل مصالح الأطراف الإقليمية، تناقضا واتفاقا، بمعنى أن المنهجَ العلمي الذي يصلح لدراسةِ جانب أو طرف من أطراف الصراع باليمن لا يصلح لدراسة الجوانب والأطراف الأخرى، وبالتالى اعتماد هذا المنهج سيفضي، لا محالة، إلى دراسةٍ منقوصة ونتائجَ مشوّهةٍ، وهذا ما يحتم على أي باحث أو كاتب سياسي تطوير المنهج البحثي الذي سيعتمده في دراسته إما بالمزاوجة بين أكثر من منهج أو بابتكار منهجية جديدة، وفي كلا الحالتين يحتاج الأمر إلى تجديد وابتكار وتطوير في منهجية الدراسة وأدواتها عند البحث في موضوع الصراع باليمن.
وبعيدًا عن الإنشاء والسرد، سنحاول التوغل إلى عمق المشكلة، التي نرى أنها تكمن في الآتي:
أولا: إن حرب اليمن، بمفهومها العام، كصراع بين سلطة شرعية وجماعة انقلابية متمردة (الحوثيون)، تضم داخلها حروبًا متعددة ومتشعبة الأهداف ومتشابكة التحالفات، مثلا: السلطة الشرعية التي يُفترض أن حربها ضد الجماعة الانقلابية، تواجه حروبا داخلية في مناطق سيطرتها وبين أطرافها، وصلت حد هزيمتها وخسارتها مناطق نفوذها، كحربها مع الانتقالي والقوات الجنوبية التي صارت هي القوة المسيطرة على الأرض سياسيا وعسكريا، وصارت الشرعية مجرد جماعة ضيوف تتنقل بين عدن والرياض لا شرعيةَ لها ولا حضور سياسي إلا بما يريده التحالف العربي وحسب مصالحه في اليمن، ضف إلى ذلك أن الشرعية تواجه تغوّلا ومحاولات سيطرة من حزب الإصلاح، ذراع جماعة الإخوان المسلمين في اليمن. من هنا ندرك ونستدرك الحقائق المعيدة التالية:
الشرعية حليف للانتقالي ضد الحوثي وبنفس الوقت عدو للانتقالي ضد الجنوب، والشرعية حليف للإخوان ضد الجنوب، والجنوب حليف للإخوان والشرعية ضد الحوثي، وهناك تحالفات خفية بين كل من الشرعية والإخوان والحوثي ضد الجنوب. كذلك المقاومة الوطنية وقوات طارق صالح حليفة للانتقالي ضد الحوثي وضد الإخوان وحليفة للإخوان ضد الانتقالي والجنوب. الحوثي ايضا عدو لقوات طارق وللإخوان وللشرعية وفي الوقت نفسه حليف لهذه الأطراف الثلاثة ضد الانتقالي والجنوب. تنظيم القاعدة، بجناحه العقائدي، عدو للحوثي في مسائل عقائدية ودينيه لكن الطرفين حليفان وموقفها يكاد يكون واحدا من الاحتلال الإسرائيلي، وفي المقابل الجناح المسيس الذي زرعه نظام صالح داخل تنظيم القاعدة ودعمه وموله علي محسن الأحمر مازال حتى اليوم هو ذراع الشرعية اليمنية الذي تبطش به ضد الجنوب لمحاولة تعقيد وإفشال أي خطوة يحققها الجنوبيون لاستعادة دولتهم..
نستنج من هذا أن حرب اليمن، بمفهومها الكلي، تضمُّ شبكةً معقّدةً من الحروب الداخلية والصراعات متعددة المشاريع السياسية ومتباينة الأهداف ومتناقضة المصالح.. وهذا طبعا يعقد منهجية البحث العلمي في الحالة اليمنية ككل.
ثانيا: حرب اليمن، وما تحويه من حروب داخلية وأطراف صراع محلية، أشعلت حربًا كبيرةً على مستوى الإقليم وأفرزت داخل هذه الحرب الكبيرة حروبا داخلية أيضا مع تحالفات متناقضة ومتشابكة، فمثلا إيران وجهت للسعودية ضربات صاروخية قاسية ومقلقة للرياض، وذلك عبر حليفها في اليمن وذراعها الأهم بالمنطقة، جماعة الحوثي، التي تتسلّح وتتلقى توجيهاتها من طهران، في المقابل فإن المملكة وتحالفها العسكري باليمن لايقاتل جماعة الحوثي لذاتها ولا تقاتل من أجل استعادة الشرعية اليمنية بل أن حرب الرياض باليمن هي حرب موجهة ضد إيران، وبمعنى أدق حرب سعودية لتحييد ذراع إيران (الحوثي) الذي شعرت الرياض أنه يلتف حول خاصرتها ويهدد أمنها القومي، إضافة إلى مخاوف المملكة من توسع المشروع الفارسي والتمدد الشيعي إلى اراضيها وعلى حزامها الحدودي، فغدت الحرب بعد ذلك حربا بين طهران والرياض عبر وكلائهما في اليمن، ضف إلى ذلك ما أفرزته حرب اليمن من صراع بين السعودية والإمارات على مناطق النفوذ في المحافظات الخارجة عن سيطرة الحوثي. وعلى مستوى أعلى نجد أن الرياض راضية عن الحوثي وإيران في مسألة عدائهما للاحتلال الإسرائيلي، وهو رضا قد يتطور إلى تحالف ودعم علني في حال تصاعدت وحشية الحرب الإسرائيلية على فلسطين ولبنان.
في السياق يُلاحظ أن السعودية التي صنفت جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية وحظرتها في المملكة تتعامل مع إخوان اليمن بمنظور آخر، لا يُعقل حتى اعتباره تحالف ضرورة، فالرياض تتعامل مع إخوان اليمن كسلطة شرعية وتسلحهم وتمولهم بالمال ضد خصومهم السياسيين وفي مقدمتهم الانتقالي وكل مكون يحمل مشروع استقلال الجنوب، في الوقت الذي يكن إخوان اليمن للرياض عداءً صريحا وصل حد التحالف علنا مع الحوثيين والقاعدة ضد أهداف عاصفة الحزم وضد قوات التحالف باليمن.
ثالثا: أقطاب العالم الكبرى دخلت هي الأخرى على خط الصراع في اليمن وبدأت بنسج علاقات وتواصل مباشر مع أطراف صراع يمنية محلية وصل حد التصريح بعقد صفقات تسليح وإمداد بصواريخ متطورة، كالموقف الروسي الأخير مع جماعة الحوثي حين هددت موسكو صراحة أنها ستعمل على تسليح الحوثيين بمنظومات دفاع جوي متطورة وصواريخ فائقة الدقة ردا على سماح دول غربية لأوكرانيا باستخدام صواريخ كروز البعيدة المدى أوروبية الصنع لضرب أهداف في العمق الروسي، وهو ما اعتبره بوتين مشاركةً فعليةً لحلف الناتو في الحرب الأوكرانية ضد روسيا.
أطراف محلية أخرى صاحبة حضور سياسي وعسكري وسيطرة فعلية على الأرض ستظل محل استقطاب للقوى الدولية وأقطاب العالم ، وهي أطراف، أي المحلية، قابلة للاستقطاب متى ما تحصلت من اي دولة كبرى على تسليح ودعم سياسي واعتراف بمشاريعها السياسية وضمانات، كالانتقالي الجنوبي الذي يبحث عن ادنى بصيص من أي قوة دولية تدعم مشروع استعادة الجنوب أو تعترف بالجنوب، وفي الوقت نفسه فالانتقالى، كقوة فاعلة وأهمية مناطق سيطرته، سيبقى محل أطماع للقوى الدولية، وتحقق ذلك سيظل أمرا مرجحًا لا سيما مع تصاعد الأحداث بالمنطقة وتغيّر موازين القوى وصعود أطراف وهزيمة وانكسار أخرى.
طرف محلي آخر لا يقل عن الانتقالى حضورا وقوه، وهو المقاومة الوطنية وجناحها السياسي التي يتزعمها العميد طارق صالح، فتلك قوة لها مشروعها، ومن غير المستبعد أن يستقطبها أي طرف دولي ويدعمها كحليف له في منطقة حساسة على سواحل البحر الأحمر وميناء الحديدة وباب المندب، فإذا تحصل طارق على دعم لتحقيق مشاريعه، وأولها استعادة ملك أبيه والانتقام من عدويه اللدودين، الحوثي والإخوان، ثم سحق الانتقالي وضرب مشروع استقلال الجنوب، فلا محالة سينجر الرجل وقواته خلف توسيع تحالفاته دوليا على حساب الأطراف المحلية الأخرى وعلى حساب حلفائه اليوم في الرياض وأبوظبي، والحال كذلك مع الانتقالي الذي يبدو أنه الأكثر حرصًا وسعيا نحو أي حليف دولي يفكه من قيود الاتفاقات والأخطاء التي وقع فيها جراء تحالفه مع حلفاء لا يعترفون بمشروعه ويعارضون بل ويقاتلون قواته ويسعون إلى شيطنتها وتفكيكها.
في الخلاصة نستنتج أن الحالة اليمنية والصراع هنا يشكل تحديا أمام الباحثين وأمام الدراسات التي تهتم بالصراعات والحروب وترغب في التعامل مع الحالة اليمنية من منظور منهجي وعلمي بحت بعيدا عن المواقف السياسية الذاتية وبعيدا عن الإملاءات والضغوط أو الانصياع للواقع الذي يعيشه الباحث لا سيما حين يكون يمنيا أو يعيش في اليمن.