ماجد الطاهري
بلاد العميــــان
يتبادر للقارئ من العنوان ان هنالك بعدا اخر خلف العنوان "" بلاد العميان"" وليست مجرد رواية من وحي الخيال كحال روايات دوستويفسكي حول "" الجريمة والعقاب"" الرواية مؤلفها يدعى "هربرت جورج ويلز"وهي قصة شيقة للغاية تتمحور احداثها حول هروب أقوام من سكان البيرو من الغزو الاسباني العنيف ليجدو انفسهم وسط انهيار صخري اودى بهم في مكان عميق وسحيق انقطعوا بسبب ذلك عن العالم،ثم اصابتهم بمرض خطير يسبب لهم العمى خاصة المواليد الصغار ومع مرور الزمن وتعاقب الاجيال اصبح جميعهم يعاني من العمى ولكن الاجيال الاولى كانت تدرك ان ما وقع بها هو داء افقدها الابصار والرؤيا لكن عندما مر وقت طويل حيث الجيل الرابع عشر تغيرت المفاهيم والمعتقدات لقد اصبح الحكماء منهم يجحدون فكرة انهم خلقوا بأعين مبصرة بل هكذا خلقوا كما هم عليه بأعين غائرتين مخيطة بالجلد ودون اهداب هذا ما ذكره الكاتب الروائي للقصة (هربرت جورج ويلز)عن حال بلاد العميان،ثم يعرج لحادثة اكتشاف تلك البلاد التي ترزح في اعماق الارض عن طريق سقوط رجل مغامر وذكي وقارئ مثقف للكتب ومتسلق بارع لجبال الاندييز هناك في بلاد الاكوادور يدعى (بوينز) ويذكر انه بينما كان يقود فريق تسلق جبال انحليزي كدليل لهم ثم سقط في هوة سحيقة على منحدر من الجبل الثلجي ليجد نفسه بعد ان أفاق على ارض منبسطة فيها اشجار وانهار وحيوان وحيد يسمونه'البالا" ثم تراء له من الأسفل ان جبالا شاهقة ملسا جعلت المكان الذي سقط فيه محاصر عن العالم الخارجي وبينما هو يمضي قدما هناك نحو المجهول إذ به يلمح من بعيد قرية مبنية من الاكواخ فيها ممرات وطرق معبدة مسنودة بحائط يعلو الرجل مسافة الصدر، وحينما اقترب منها ذهل مما شاهدته عينه من التنظيم والترتيب الدقيق للمنازل والطرق ولحظ ثلاثة اشخاص يسيرون بشكل منتظم وحدا تلو الاخر فنادى عليهم بصوت جهوري ليلفت انظارهم لكنهم بعد ان سمعوه توقفوا واخذوا يشحون بوجوههم عكس اتجاهه فأخذ يحاول ان يؤشر لهم بيديه لعلهم يرونه لكنهم لم يفعلوا، قال في نفسه ان هؤلاء الحمقى اما اغبياء أو انهم عميانا فدنى منهم قريبا وجدهم بشرا عاديين غير ان عيونهم غائرة لدرجة انها صارت مجرد شكل لا نفع فيها ولا بصر، فاخذ يحدثهم انه انزلق من اعالي الجبل ليجد نفسه في هذه الارض المجهولة متسائلا عن ما اذا كان بإمكانه العودة من طريق مختصرة، وفي توجس وخوف وهمس فيما بينهم اقتربوا منه ولمسوه قال: احدهم انه انسان وقال الثاني لكنه مشوه وعيناه متورمه ومنتفخة! وقال الثالث وهو يلامس ذقن نونيز قائلا ان شعره جاف وخشن ثم قبضوا عليه متوافقين على اقتياده نحو حكما وكبار القوم..
وبينما هم يسيرون في الطريق على رتب مشية العميان المعتادة يجرونه من اطراف يديه وهو يتهادى ويكاد يقع قالوا له مابالك هل انت اعمى ولا ترى امامك.. فضحك قائلا بل انتم العمي فاتركوا يدي اني ارى جيدا..
فلما وصلوا القرية تجمهر الناس حولهم في استغراب وفي حضرت الحكماء اخذوا يتهامسون فيما بينهم من هذا الشخص الغريب الذي يشبه الانسان وفيه عيوب خلقيه انه يقول انه جاء من خلف الصخور ويقول اخر انه يهذي كالمجانين بكلام غريب عن مشاهدته لكون اخر وبشر باشكال اخرى..
كان بونيز ذكيا وفكر فيما عرفه من القول الحكيم :(الأعور في بلاد العميان ملك) قال في نفسه سوف املك هؤلاء العميان سوف ابهرهم بمعرفتي وما املك من هبات لا يملكونها هم انهم مساكين توارثوا الاصابة بالعمى طيلة خمسة عشرة قرن من الزمان حتى اصبحوا لا يعرفوا شيئا عن الابصار.. وانتهز الفرصة للحديث قائلا: اسمعوني جيدا اني قد جئتكم من اعالي الجبال هناك حيث الشمس والانهار والبشر يعيشون انهم مئات الالاف كما هي الحيونات،انه عالم جميل ومبصر لكل شيء حوله، كانوا يستمعون اليه باستغراب انه يقول كلاما غريبا كالمخابيل، ان هذا انسان مسحور، ويقول اخر بل مضروب في عقله.. قال الحكيم فيهم: انه انسان مثلكم ولكن يعتريه بعض القصور الخلقي أو اصيب بالمرض وسوف يعالج ويصبح مثلكم طبيعيا، ثم امرهم ان يتحفظوا عليه جيدا في احدى الاكواخ حتى لا يقع منه امر مريب!
صرخ بونيز ماذا تفعلون ايها العمي الحمقى اقسم اني سأسحقكم وامضي ايها المعتوهين استمعوا اليُ.. لكنهم تجاهلوا قدحه وشتيمته انه انسان ناقص ومصاب بالمرض، اعطوه خبزا جافا ليأكل وماء.
ثم يقرر بوينز بعد تفكير ان لا مخرج له الا ان يجاريهم في كلامهم قال لهم حسنا ربما انا مريض واهذي وانا بحاجة الى وقت من الراحة استعيد فيها عافيتي فتهلل القوم لقد بدئ يعود الى رشده، فكر في لحظة ان يمسك مجرفة كانت بجواره ثم يضرب بها احدهم ليثبت لهم انه يرى ما لايستطيعون هم ان يروه وانه يمتلك مقدرة لا يمتلكوها هم،وما ان امسك بالمجرف بيده حتى رأي ان هناك حالة من الاستعداد بدت عليهم وقال له احدهم ماذا تنوي ان تفعل بهذا المجراف الذي بيدك اتركه حالا، حاول بوينز ان يضرب به لكنهم كانوا يمتلكون حاسة سمع وشم شديدة عوضتهم عن الرؤيا بالعين.. تملص بوينز منهم كانوا يلاحقونه لكنهم لم يتمكنوا منه هرب بعيدا نحو كهف عال في الجبل مكث فيه ليلتان حائر التفكير فيما وقع عليه من هذا المصير وكان يقول لنفسه هل انا بائس ام اني مختار من بين الناس لانير بصيرة هؤلا القوم وقرر ان يعود اليهم ويعيش نفس تفكيرهم ثم بحاول مع مرور الزمن ان يقنعهم بوجود حاسة البصر ووجود عالم خارحي وحيوي فوق اعالي الجبال وايضا فهو جائع وبحاجة الى الطعام لذا عاد اليهم معتذرا عمى بدر منه وانه مصاب ويرجوا الشفاء وسيعيش معهم باحترام وود، لقد كان يظن انهم لن يسامحوه عما فعل، لكنه استغرب حين وجد منهم صفحا وتسامحا ان قلوبهم بيضاء ولا يحقدون انهم ينظرون اليه بعين الشفقة والرحمة شخص مصاب بداء غريب وناقص عن البشر..
عاش بوينز مع احد كبار القوم واحبه كثيرا كما يحب أولاده الثلاثة وبناته ومع مرور الايام وقع حب اصغر بنات السيد في قلب بوينز انها جميلة ومختلفة عن سائر نساء القبيلة تبدو عيناها متورمتان لم تكونا غائرتين كما هو حال بقية النساء ولها اهداب اقرب للمبصرين، لكنها كانت صفات جعلت منها في اعين قومها امرأة قبيحة وذميمة وفيها عيوب خلقية حتى انه لم يتقدم احدهم لخطبتها، لم يخفي بوينز حبه عنها فقد صارحها به ضحكت ولم ترد عليه لقد كانت هي الاخرى مهتمة ومعجبة به لكن مترددة في حبها الذي قد يعارضه اخوتها وقومها.. ومع مرور الايام وازدياد نار الود والعشق بين الحبيبين حدثها انه يرغب بخطبتها من ابيها لكنها طلبت منه ان يترك الامر لها للقيام بذلك.. كانت تشعر مسبقا ان والدها لن يقبل ان يزوجها من شخص ناقص خلقيا وغريب الاطوار وكانت هي احب بناته اليه كذلك اخوتها بعد ان سمعوا الخبر اعترضوا وبشدة حتى ان أحدهم حاول ان يتعدى على بوينز بالضرب لكنه وجد مقاومة ورد فعل قوي من يوينز جعلته يحظى باهتمام اكثر عند سيده وحبيبته التي اخذت تبكي وتترجى والدها ان يزوجها اياه كانت تشرح لأبيها انه شخص طيب القلب وقوي البدن وان ما يعانيه من هذا المرض سوف يزول بالتأكيد مع المستقبل..
وبعد الحاح البنت وتفكير مطول من الأب قرر ان يعرض الأمر على الشيوخ والحكماء للإستشارة.. كانت مواقفهم تشير االى وجوب الرفض لأنه شخص غريب وغير كامل ولا مؤهل للقيام بواجب الزواج، وكان كبير الاطباء هناك فقال: بإمكاني ان اعالجه ليصبح شخص طبيعي مثلنا ولكن لابد من نجري له تدخل جراحي نزيل فيه هذا العيب الخلقي المتورم في عينيه والذي يسبب له تشويش في عقله فيبدأ بالهلوسة بكلام غير مفهوم..
فرح الاب كثيرا وعاد مسرعا ليبشر ابنته وحبيها ان هناك امكانية لعقد زواجهما بشرط اجراء العملية، لاح بريق على محيى الابنة كانت فرحة ممزوجة بالحزن في نفس الوقت،انها سعيدة لأنها ستتزوج اخيرا من محبوبها وحزينة في نفس الوقت لأنها تدرك ان هذا الأمر أي (فقئ عيني بوينز) لا يحببه لنفسه ولا يريده.. قالت له ياحبيبي ارجوك من اجلي ان توافق على اجراء العملية، قال لها: كيف اوافق على اخذ نظري الذي رأيتك فيه واحببتك عن سائر النساء كيف اتخلى عن رؤيتك امامي ما تبقى من عمري اني اقول لك ان هناك الملابين من البشر مثلي انه عالم مبصر وان ما وقع على قومك هو الحالة الاستثنائية..
لكنها ايضا ضلت تضغط عليه وتتوسل ان يقبل الامر وستعوضه ان تعيش معه اجمل سنين عمره ..
كان ينظر اليها بعين المحب والمشفق في نفس الوقت يقول في نفسه المسكينة انها ايضا مقتنعة تماما انه مصاب بالمرض ثم قال لها انه موافق على اجراء العملية، عند سماعها ذلك لم تسعها الدنيا من الفرح والسعادة وذهبت لتخبر ابيها بذلك وحددت فعلا موعد اجرى العملية..
اخذ بوينز يعد الساعات وهو يفكر باخر اللحظات التي يرى فبها النور وجمال الاشياء، كان يريد ان يستمتع بمشاهدة الجبال والغابة وحيوانات البالا وحبيبته كذلك، حتى اقترب الموعد ولم يفصله الا يوم طلب بوينز ان يتركوه ذلك اليوم ليخرج اخر مرة ليشاهد جمال الاشيئاء من حوله ذهب بعيدا نحو المروج واستلقى على ظهره نظر الى اعالي الجبال استعاد ما حصل له اثناء الهبوط قال هل يمكنني ان اتسلق هذا الجبل الشاهق الإملس لكن توجد فيه بعض الشقوق وبإمكاني فعلها ثم سيقودني الى الجرف لأجتاز الصخور وأصل الى المنخدر الثلجي نعم بامكاني ذلك.. فاخذ يتسلق بعيدا نحو السماء لقد بلغ مسافة عالية جدا وجد في منتصف الجبل جرفا فاخذ استراحه ثم نظر الى الأسفل كان الضباب قد حجب الرؤيا عن قرية العميان...
ان القصة طويلة ولها اجزاء لكن تضل عمل روائي فريد لما تتضمنه من حبكة درامية و قصصية مشوقة اضافة الى ما تحمله من دلالات مشابهة للواقع الحقيقي الذي يعيشه بعض البشر والشعوب ممن قد وقعوا في العمى المعنوي فهم يستغربون شكل الانسان السوي يحاولون تغييره باشكال اخرى انهم يعيبون شكل الانسان. وسلوكياته و غرائزه الطبيعية التي خلق عليها، لقد غيروا المفاهيم وبدلوا الافكار وخلوا بالقيم لانهم فقدوها مع مرور الزمن تلاشت شيئا فشيئا حتى طمست ثم اضحت نكرة مستنكرة..