د. عبده يحيى الدباني
العين لا تعلو على الحاجب!!
هذا المثل يأسرني ويدهشني بلاغيًا ، ويحفزني عقليًا ، ويشدني أخلاقيًا ، وهو مثل شعبي سائر ، وهو فصيح، ولا أدري هل هو ضمن الأمثال الفصيحة في كتب الامثال في تراثناالعربي أم لا ؛ لكنني أسمعه منذ الصغر ، وأسمعه حيثما ذهبت فلم يكن مرتبطًا بمنطقة دون أخرى ، وقد تتغير الصيغة من مكان إلى آخر.
هو مثل موجز بليغ بُني على التشبيه ،
والمثل - أي مثل- هو استعارة ، فأي مثل بما ينطوي من قصة هو استعارة ، لأنه ينقل من مضربه الأساس إلى موقف آخر مشابه ، لكن هذه الاستعارة في هذا المثل الذي بين ايدينا أنطوت على التصوير والتشبيه كذلك ، فالعين هنا تعني الإنسان المُهتم به والذي ينبغي أن يُرعى وهو الأهم ، والحاجب هو القريب أو الصاحب أو التلميذ لهذا الإنسان المهم ، يعني وكأننا نقول الأب والابن ، فالأب هو العين والحاجب هو الابن ، فالعين لا تعلو على الحاجب ، فالحاجب وُضع لحماية العين فكيف للعين أن تعلوه وتبقى من غير دفاع وترجع هي تدافع عن الحاجب فهذا أمر غير منطقي ولا طبيعي .
وهذا المثل ينضح بالبلاغة من خلال هذا التصوير، وهذا الإيجاز والتأثير والاقناع ، فكلما قيل هذا المثل يهتز من يقال له ، لمكانة المخاطب من المخاطِب ، فالمخاطَب هو العين والمخاطِب هو الحاجب ، وسمي الحاجب حاجبًا لأنه يحجب ويدفع عن العين ، ولهذا كانت العين في مكانٍ حصين خلقه الله ، وقد أحسن خلقه ، فحولها دفاعات ، وقلّما تصاب العين بأذى على رقتها وضعفها ، لأنها في مكان محصن .
هذا المثل يتضمن أخلاقا بحيث لا يتطاول الصغير على الكبير ، ولا يتطاول من عليه الفضل على من له الفضل ، هذا المثل يضع الأمور في نصابها ، وينزل الناس منازلهم وهذه مسألة أخلاقية وعقلية وتحث على حسن التدبير والترتيب .
فلو طبقت الأمة هذا المثل لكانت في خير ، لكأنما هذه كلمة قالها نبي ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( انزلوا الناس منازلهم)
"العين لا تعلو على الحاجب"
لاحظ هذا التجسيد للفكرة المعنوية المجردة ، فهذا المعنى أختصر لنا المعنى وجسده ، لأن هناك استحالة لأن تعلو العين على الحاجب ، فالله خلقها هكذا يعلوها الحاجب لحمايتها .
في هذا المثل إنزال الأمور منازلها ، فلا يتعدى هذا على ذاك أخلاقا وتقديرا واحتراما وأحقية ، سواء كان في العمل أو في السلوك ، فكل له المكان الذي يستحقه ، مثلما رُتبت الأعضاء في الجسد ، فجاء هذا المثل مقتبسا من خلق الله سبحانه وتعالى في الترتيب والتنظيم وفي أداء الوظيفة ، فالعين لها وظيفتها ولكن الحاجب وظيفته في حمايتها حتى لا تكون مكشوفة ، وهذا ينسحب على كل أمور الحياة من حيث ترتيبها وتنظيمها وأولوياتها.
جاء المثل بلغة صحيحة فصيحة، من خلال جملة اسمية خبرها جملة فعلية منفية وهناك شبه جملة من الجار والمجرور متعلقة بالجملة الاسمية.
لقد أعجبني هذا المثل وأدهشني ، وما أكثر هذه الكنوز في أمثالنا الفصيحة وأمثالنا الشعبية !