سمير عطا الله
دروز بلغراد
عرف العمل الروائي في السنوات الأخيرة ظاهرة تدعى ربيع جابر. وهو غزير الإنتاج، كامل الانزواء الاجتماعي، ليس له عنوان معروف أو هاتف أو مكان عمل. منذ أن أغلقت «الحياة» أبوابَها، حيث كان يتولى القسم الثقافي. قرأت جميع أعماله، وشغفتني بصورة خاصة «دروز بلغراد»، التي رأيت فيها مستوى عالمياً إلى أبعد الحدود. وكتبت يومها مقالاً افتتاحياً عن المؤلف في «النهار» دون أن أتوقع منه اتصالاً بسبب ما سمعت عن عزلته، حتى سار قول إنه اسم مستعار لرجل لا وجود له.
أصبحت أكتفي من صاحب الاسم الحقيقي، أو المستعار، بقراءة كل عمل جديد يصدر له. وترسخ في ذهني بعد وقت أن الذي يكتب هذه الروايات الجميلة شبح أو مجموعة أشباح تتقن فن الرواية وفن الاختباء معاً. قبل أيام خرجت من المكتبة فوجدت زحمة سيارات وناس. ولفتني وجود شاب يتأملني كأنه ينتظرني. وعندما ترى هذا المشهد في بيروت الآن، فمعنى ذلك أن الرجل يريد مساعدته في العثور على عمل. أكملت طريقي نحو سيارتي فاستوقفني قائلاً إنه يقرأني. شكرت، فزاد أنه يقرأ كل يوم.
قلت، تأدباً، «لم تشرفني بمعرفتك بعد». قال: «هل تعدني بألا تكتب عني»؟ قلت، أعدك في حالتين، «إما إذا كنت مرشحاً للرئاسة، أو إذا كنت مطلوباً في كارثة المصارف». لم يضحك، بل عاد يسأل: هل تعدني؟. قلت: «كيف أعد رجلاً لا أعرف من هو، ولا ماذا يفعل، ويفترض سلفاً أنه من العظمة بحيث لمجرد أن يلفظ اسمه سوف أهرع في الطرقات هاتفاً وجدته. وجدته.
قال وأنا أبتعد أكثر: أنا ربيع جابر.
عدت نحوه وأنا أنفجر ضحكاً. قلت تعتقد أنني من الغباء بحيث أضيّع هذا السبق؟ لا يا عزيزي، بل سوف أكتب، وأعلن أن كل من يبحث عن معالم صاحب «دروز بلغراد» فيتصل بي، وأستطيع أن أضيف شيئاً عن المكتبة وعن نوعية الكتب التي تقرأها في أبحاثك.
ولن تقف مخيلتي عند ذلك أبداً. ففي لبنان، كما تعرف، كل اسم علم له طائفة، وكل طائفة لها مذاهب، وكل مذهب له عنترة أو أكثر. واسمك متعب محيّر مكرٌ مفرٌ، الشيعي شيعي والسني يا لطيف والدرزي وصلت مواصيله إلى بلغراد.
بهذه المطالعة أعفيت نفسي من أي وعد. وتحررت من عقدة الغموض في «دروز بلغراد». يا جماعة، لا اسم مستعار ولا حاجة. ربيع جابر يقلد أبطاله. إلا إذا كان الرجل الذي التقيته ليس ربيع جابر.