الصليب الأحمر وغزة.. الاختبار الأصعب
وسط ركام يطوق كل شبر في قطاع غزة، يتقدّم موظفو الصليب الأحمر في واحدة من أكثر المهمات تعقيدًا على وجه الأرض.
وبحسب مجلة "نيوزويك"، فإن هذه المهمة تتمثل في نقل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، أحياءً وأمواتًا، عبر جبهة مشتعلة لا تعرف الرحمة منذ عامين.
وفي مشهد يختزل قسوة الحرب وتحديات الإنسانية، تتحمّل اللجنة الدولية للصليب الأحمر - المنظمة التي تتخذ من جنيف مقرًا لها - عبء تنفيذ ما لا يجرؤ غيرها على خوضه.
"اختبار غير مسبوق"
تقول ميرجانا سبوليارِتش إيغر، رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إن المهمة في غزة تمثل اختبارًا غير مسبوق حتى بالنسبة لمنظمة تمتد خبرتها في النزاعات إلى أكثر من 160 عامًا.
وتضيف في حديث لمجلة نيوزويك: "قلة من الصراعات اختبرت قدراتنا كما تفعل غزة اليوم، بسبب القيود والدمار والتعقيد السياسي، لكن هذا بالضبط هو السبب الذي وُجدت منظمتنا من أجله. لا يمكننا أن نتراجع عن واجبنا الإنساني".
ومنذ عقود، حافظ الصليب الأحمر على وجود ثابت في غزة، ونجح في بناء قنوات اتصال مفتوحة مع كلٍّ من إسرائيل وحركة حماس، وهما طرفان قلّما يلتقيان إلا في ساحة القتال.
وتقول إيغر: "تحدثنا مع حماس منذ تأسيسها، ومع السلطات الإسرائيلية منذ قيام الدولة، وهذا الحوار المستمر والمعرفة المتبادلة بآليات كل طرف هي ما تمكّننا من العمل في ظروف شبه مستحيلة."
لكنّ ما أعقب هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 فاق كل ما شهدته غزة من قبل.
فالهجوم الذي أودى بحياة نحو 1200 شخص في إسرائيل واختُطف خلاله حوالي 250، تبعته حرب مدمرة تسببت في مقتل أكثر من 67 ألف فلسطيني، وفق وزارة الصحة في غزة.
مخاطر
وسط هذا الدمار، تتولى اللجنة الدولية للصليب الأحمر الجانب التنفيذي من صفقات تبادل الأسرى، بينما تتولى واشنطن والقاهرة والدوحة صياغة التفاهمات السياسية.
ومنذ اندلاع الحرب، أشرفت اللجنة على إعادة 160 رهينة إسرائيلية أحياء و3,500 أسير فلسطيني، إضافة إلى نقل جثامين 23 إسرائيليًا و195 فلسطينيًا.
برغم ذلك، لا يزال البحث جاريًا عن رفات 13 رهينة إسرائيلية يُعتقد أن جثثهم دُفنت تحت أنقاض غزة، وتقول إيغر: "كل إنسان، بغض النظر عن هويته، يستحق أن يُدفن بكرامة. هذه قناعة لا نتنازل عنها".
لكن المهمة لا تخلو من المخاطر، حيث فقد الصليب الأحمر العشرات من موظفيه ومتطوعيه في الحرب، فيما لا يزال مصير بعضهم مجهولًا.
كما تواجه المنظمة عراقيل ناجمة عن انعدام الثقة بين الطرفين، وتبادل الاتهامات بانتهاك الهدنة، وتتهم إسرائيل حماس بإعدام رهائن، فيما تقول الأخيرة إن الأسرى الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم عادوا بعلامات واضحة على التعذيب وسوء المعاملة.
وتؤكد إيغر أن الحياد هو سلاح الصليب الأحمر الأقوى في بيئة تهيمن عليها الانقسامات والاتهامات، قائلة: "نتعرض لانتقادات كثيرة بسبب حيادنا، لأن كل طرف يرى خصمه معتديًا لا يستحق المعاملة بالمساواة".
ومستدركة: "لكن هذا المبدأ هو ما يسمح لنا بالوصول إلى من يحتاج المساعدة. فالحياة الإنسانية لها القيمة نفسها، أيًّا كان صاحبها".
لكن الحياد لا يعني الصمت، فدور اللجنة، كما تقول إيغر، يقوم على توثيق الانتهاكات ومناقشتها مباشرة وبشكل سري مع الأطراف، من دون اللجوء إلى الإدانة العلنية.
وتتابع: "لسنا جهة لتطبيق القانون، بل جهة تعمل على ضمان احترامه. عندما نرى خرقًا لقواعد الحرب، نبلغ الطرف المعني مباشرة، ولا نشارك تقاريرنا مع أي جهة ثالثة".
دعم ضروري
رغم أن الصليب الأحمر منظمة مستقلة، فإن 82% من تمويله تأتي من الحكومات، وتُعدّ الولايات المتحدة أكبر المساهمين.
لكن مع سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب الجديدة، خفّضت اللجنة ميزانيتها بنسبة الثلث وعدد موظفيها بنحو 25%، أي ما يعادل 5000 وظيفة.
ومع ذلك، تقول إيغر إن العلاقة مع واشنطن لم تتأثر سلبًا، "فما زالت أمريكا أكبر مانح لنا وشريكًا موثوقًا، والتعاون معها وثيق، خاصة في غزة، لأننا بحاجة إلى نفوذها السياسي لدعم جهودنا الإنسانية".
وترى إيغر أن هذا الدعم ضروري أكثر من أي وقت مضى، في ظل اتساع رقعة النزاعات العالمية وتراجع احترام القانون الدولي الإنساني.
وتضيف "التاريخ يثبت أن غياب القواعد يؤدي إلى الكارثة للجميع. إذا أردت أن تمهّد الطريق للسلام، فاحترام قواعد الحرب هو الأساس."
وتختتم حديثها بالقول: "نحن نُنتقد لأننا نتحلى بالصبر، لكن الصبر والمثابرة هما ما يجعلنا نواصل عملنا في أصعب الظروف. لم أرَ حتى الآن بديلًا يعمل أفضل من ذلك."