لوس أنجلس.. مدينة بلا قلب تشبه خريطة بشرية للعالم
لم تكن رحلتي إلى لوس أنجلس مجرّد انتقال جغرافي على خريطة، ولا حلما قديما ظللت أطارد خيطه بين أيام العمر، بل كانت انعطافة حادّة في مسار كنت أظنه مستقيما، انحرافا غير متوقّع قادني إلى مدينة لم تكن تسكن في وجداني إلا بقدر ما تلمع على شاشات السينما وأغلفة المجلات.
كنتُ قد هيأت نفسي لرحلة أخرى، إلى مدينة عربية أعرف ملامحها ورائحة مسائها، حيث يتسلّل صوت المؤذن في الغروب بين البيوت الطينية، وحيث الخبز يخرج من التنور ممزوجا بغبار الحارات القديمة. لكن الأقدار ـ وهي المخرج الأذكى في مسرح الحياة ـ رتّبت في اللحظة الأخيرة أن أبدّل التذكرة، وأن أضع حقيبتي على خط سير يَمتد إلى الضفة الأخرى من الأرض.
صباح الرحلة كان ممتدا على الطريق بين الرّقة ومطار حلب الدولي، مئة وتسعون كيلومترا من الإسفلت يشقّ قلب الريف، تحفّه بيوت طينية تلتصق بالأرض كأنها جزء من طينها، وحقول قمح صامتة في انتظار المطر، وأشجار زيتون نحيلة تقف كحرّاس الزمن على جانبي الطريق. كان المشهد مألوفا، لكنه في ذلك اليوم حمل طعم الفراق الطويل؛ فقد كنت أعلم أنني لا أذهب لزيارة عابرة، بل لأدخل زمنا آخر قد يعيد ترتيب داخلي على نحو لا رجعة فيه.
مدينة بلا قلب
في شوارع وأحياء المدينة تسمع مزيجا من لغات العالم وكأن كل ركن من أركانها نافذة على قارة أخرى
المطارات، في جوهرها، ليست محطات سفر فحسب، بل عتبات عبور بين عوالم، مسارح مؤقتة يتقاطع فيها الغرباء، كلّ يحمل حكايته في حقيبة لا يراها سواه. دخلت المطار بعد سلسلة من نقاط التفتيش، حيث تمتد الأيدي لتفتّش الحقائب، وتغوص العيون في الجيوب، كما لو أن الأمن يبحث عن خفايا النوايا لا عن المعادن. صعدت إلى الطابق الثاني، وجلست على مقعد جلدي أرقب المسافرين؛ كلٌّ منهم غارق في جزيرته الصغيرة من الانتظار، يكتب في ذهنه نصّ الرحلة المقبلة.
هناك، دون إنذار، خطرت لي فكرة العودة. لم تكن رغبة في البقاء بقدر ما كانت ارتعاشة أمام المجهول، كأن المستقبل المعلّق على بطاقة الصعود ثقيل على يدي. نهضت ونزلت إلى الطابق الأول، إلى مكتب الضابط الذي يحتفظ بختم العبور الأخير، وطلبت إلغاء المغادرة. نظر إليّ بصرامة تشي بأن الزمن في المطارات لا يتسامح مع التراجع، وقال: “إن عدت الآن، فلن تسافر اليوم”. كان صوته أشبه بصفقة قاسية: إمضِ أو انسحب، ولا تنتظر أن تُفتح لك هذه البوابة مرتين في اليوم ذاته.
عدت إلى البوابة وقلبي يترنّح بين الرغبة في المضي ونداء العودة. حتى بعد أن جلست على مقعدي داخل الطائرة، طلبت من المضيفة أن تنزلني. ابتسمت ابتسامة من يعرف أن اللحظة قد انقضت، وأشارت بيدها إلى أن حقيبتي ترقد في بطن الطائرة، وأن كل شيء صار في مساره. عندها فهمت أن الرحلة قد بدأت بالفعل، سواء وافقت روحي على ذلك أم لا.
خمس ساعات ونصف من الطيران كانت كافية لأن تُسقطني في قلب مطار هيثرو بلندن، ذلك الفضاء الهائل الذي لا يشبه مبنى بقدر ما يشبه متاهة دولية، تتقاطع فيها طرق المسافرين كما تتقاطع حكاياتهم. تحت سقوف الزجاج والمعدن المعقّمة، يلتقي العالم في نسخته الأكثر حيادا وبرودا، حيث تتجاور اللغات واللهجات، لكن أحدا لا يرفع صوته إلا بقدر ما تسمح به البروتوكولات. هناك، وسط هذا الحشد المنظم، راودتني مجددا فكرة العودة، فكرة الانسحاب قبل أن يبتلعني خط الرحلة إلى آخره.
توجهت إلى مكتب شركة الطيران البريطانية، وفي داخلي رغبة خافتة أن أجد منفذا للرجوع. سألت الموظف عن إمكانية العودة إلى حلب، فجاءني صوته الإنجليزي ببرود معتاد: الرحلات لن تتوفر قبل يومين أو ثلاثة. كانت الكلمات كافية لأُدرك أن أي بقاء هنا سيعني انزلاقا إلى فراغ فندقي بلا ملامح، في مدينة لم أتهيأ بعد لمصافحتها. بدا الأمر بلا معنى، فاخترت أن أستسلم للمسار، فالسفر أحيانا ينزع عنك حق الاختيار، ويدفعك إلى الانسياب في تيار أقوى من إرادتك.
لوس أنجلس لا تُحاصَر بطراز معماري واحد فهي مدينة تتسع لتناقضات الجمال كما تتسع لطبقات التاريخ
أربع عشرة ساعة أخرى من الطيران، والمحيط الأطلسي ينساب تحتنا كبحر من الحبر الأزرق، تعقبه تضاريس القارة الأميركية، حتى أخذت زرقة السماء تخفّ شيئا فشيئا، وبدأ المحيط الهادئ يلمع تحت جناح الطائرة كمرآة عملاقة. ومن علٍ، بدت لوس أنجلس كفسيفساء لانهائية، شوارع مستقيمة كخطوط هندسية صارمة، وطرق سريعة تلتف على ذاتها كأفاعٍ معدنية تحيط بأحيائها.
حين هبطنا، اكتشفت أن مطار لوس أنجلس الدولي (LAX) ليس محطة عابرة، بل مدينة قائمة بذاتها، تسعة مبانٍ مترابطة، يمر بها سنويا ستون مليون مسافر، خليط من اللغات والأزياء والوجوه القادمة من كل قارات الأرض. الخدمات هنا لا تتوقف عند حدود الضرورة، بل تتسع لتغريك بالبقاء: مطاعم تحمل نكهات العالم، مقاهٍ تتناثر كجزر للقهوة والانتظار، أسواق حرة تلمع بالسلع، مراكز لخدمات الأعمال، ومساحات فنية كأنها تريد أن تذكّرك بأن المدينة التي ستدخلها بعد قليل تتنفس الفن كما تتنفس الهواء. المطار هنا ليس بوابة عبور فحسب، بل مرآة مصغّرة للمدينة نفسها: صاخبة، متشعبة، لا تعرف التوقف.
كان صديقي ـ المحامي الذي يعيش منذ سنوات في هذه المدينة ـ في انتظاري عند البوابة، بابتسامة تجمع بين دفء الحفاوة وفضول من يرى صديقه يعبر إلى عالمه الخاص لأول مرة. بيته في حي هادئ بدا لي كواحة صغيرة، ملاذا من ضجيج الرحلة الطويلة، لكنه أيضا نافذة مفتوحة على لوس أنجلس، لا بعيون السائح الذي يلتقط المشهد، بل بعيون المقيم الذي يعرف تفاصيله ويقرأ ما وراءه.
تمتد لوس أنجلس على مساحة 1302 كيلومتر مربع، رقعة شاسعة لا يحدّها البصر، وهي ثاني أكبر مدن الولايات المتحدة من حيث عدد السكان بعد نيويورك. غير أن المقارنة بينهما قد تُفضي إلى صورة مضلِّلة؛ فبينما تتعالى نيويورك عموديا، متشبثة بالسماء بأبراجها التي تخرق الغيم، تنبسط لوس أنجلس أفقا، تتسع بلا نهاية، حتى يضيع مركزها في تشتت المراكز. ليست مدينة ذات قلب واحد، بل مدينة لعدة قلوب، لكلّ منها نبضه المختلف: هوليوود بسلطتها السينمائية التي تصنع الحلم وتعيد إنتاجه، بيفرلي هيلز بأحيائها الفاخرة التي تلمع تحت شمس كاليفورنيا، سانتا مونيكا بشواطئها التي تتكسر عندها أمواج المحيط، وداون تاون بأبراجها الإدارية التي تحرس اقتصاد المدينة. كل مركز منها يحمل شخصيته المميزة، اقتصاده الخاص، وتاريخه المصغّر، كما لو أن المدينة جسد متعدد الأرواح.
لوس أنجلس في جوهرها أشبه بخريطة بشرية للعالم. هنا أحياء صينية وكورية تحاكي ملامح الوطن البعيد، وأحياء مكسيكية تنبض بالحياة وتفوح منها روائح المطبخ الشعبي، وجاليات أرمنية وعربية وإيرانية تحمل معها لغاتها وأغانيها وطقوسها. المهاجرون من كل القارات تركوا بصمتهم على هذه المدينة، حتى صار ثلث سكانها من مواليد خارج الولايات المتحدة. هذا التنوّع صنع منها مختبرا فريدا للتعايش، لكنه في الوقت نفسه كشف هشاشة هذا التعايش حين تهتز الأرض تحت الأقدام، كما حدث في اضطرابات 1992، حين تحولت شوارعها إلى مرايا تعكس الغضب العرقي والاجتماعي.
سحر الضوء والظل
اقتصاد لوس أنجلس كيان هائل متعدد الأذرع، يمدها إلى العالم من خلال صناعاته الكبرى: السينما التي تصدّر صورة أميركا وصوتها، الموانئ العملاقة في لوس أنجلس ولونغ بيتش التي تُعد من الأشد ازدحاما على مستوى العالم، الصناعات التكنولوجية وعلوم الفضاء التي تربطها مباشرة بوكالة “ناسا”، وصناعة الأزياء، إلى جانب الإعلام والسياحة والتمويل. لكن خلف هذه الآلة الاقتصادية الصاخبة، يكمن تناقض صارخ: فقر مدقع في بعض الأحياء، وتشرد يمد خيامه على الأرصفة، حتى أمام أرقى الشوارع وأكثرها فخامة. هنا، تتجاور الثروة المبهرة والبؤس العاري بلا حواجز، كأن المدينة تعيش في زمنين متوازيين لا يلتقيان.
لا تُحاصَر لوس أنجلس بطراز معماري واحد، فهي مدينة تتسع لتناقضات الجمال كما تتسع لطبقات التاريخ. الإرث الإسباني يطل من القرميد الأحمر والأقواس التي تمنح الأبنية دفئا جنوبيا، بينما يلمع الزجاج والفولاذ في ناطحات السحاب كأنهما إعلان دائم عن الحاضر المتسارع. وفي الضواحي، تصطف البيوت الخشبية الصغيرة، محاطة بحدائق أمامية كأنها فسحات حنين إلى بساطة مفقودة. لكن ما يطغى على المشهد أكثر من أي طراز هو الإحساس بالمسافة؛ فهذه مدينة المسافات الواسعة، الطرق السريعة المتعددة المسارات، الجسور الخرسانية التي تعلو فوق الأحياء، تربطها وتفصلها في آن واحد. هنا، السيارة ليست مجرد وسيلة تنقّل، بل امتداد للذات، أداة للبقاء في إيقاع المدينة. من دونها، تصبح غريبا على حواف الحياة، تائها في متاهة لا تنتهي.
ورغم حداثة عهدها، تحمل لوس أنجلس ذاكرة معقدة ومركبة؛ ذاكرة تبدأ من السكان الأصليين، وتمتد إلى المستعمرين الإسبان، ثم إلى موجات المهاجرين التي توالت عبر القرون، كل منها أضاف طبقة جديدة إلى نسيج المدينة. هذه الذاكرة ليست محفوظة في المتاحف وحدها، بل تنبض في الشوارع: في الجداريات التي تحكي قصص المقاومة والهجرة، في الأسواق التي تعرض طعام الوطن البعيد، وفي المهرجانات التي تعيد إحياء موسيقى الأجداد.
رغم حداثة عهدها، تحمل لوس أنجلس ذاكرة مركبة؛ ذاكرة تبدأ من السكان الأصليين وتمتد إلى المستعمرين الإسبان
ومثلما تكشف التجربة الأولى ملامح الوجه الإنساني للمدينة، تكشف التفاصيل الجغرافية والتاريخية جذورها العميقة، تلك التي تفسر كيف أصبحت على ما هي عليه اليوم. تقع لوس أنجلس في واحدة من أكثر المقاطعات تنوعا عرقيا في الولايات المتحدة، مقاطعة تحمل اسمها ذاته، وكأنها تقول إن المدينة هي المقاطعة، والمقاطعة هي المدينة. هنا، يلتقي العالم في بقعة واحدة، حتى غدت ثالث أكبر اقتصاد حضري في العالم بعد طوكيو ونيويورك، وثاني أكثر مدن البلاد اكتظاظا بالسكان.
في شوارعها وأحيائها تسمع مزيجا من 224 لغة يتحدث بها القادمون من أكثر من 140 دولة، وكأن كل ركن من أركانها نافذة على قارة أخرى. أما اسمها، “لوس أنجلس”، فيعود إلى الإسبانية، ويحمل معنى “الملائكة”، وكأن المدينة كُتبت لها منذ البداية أجنحة تحلق بها بين العوالم.
طبيعتها نفسها لوحة متعددة الطبقات: تضاريس يغلب عليها طابع الجبال والمرتفعات، تتوجها قمة “لوكنز” التي تعد الأعلى في حدودها، ومياه المحيط الهادئ التي تعانقها من الجنوب والغرب، بينما يشقها نهر لوس أنجلس بطوله الممتد 82 كيلومترا، كالشريان المائي الرئيسي في جسدها. على ضفاف النهر، كما على امتداد الساحل، تتنوع التربة، فينمو نبات لكل تربة، كما تنمو ثقافة لكل حي.
مناخها ـ على النقيض من مدن الشرق الأميركي ـ متوسطي الطابع، شتاؤها معتدل ورطب، وصيفها حار وجاف، لكن الشمس تظل حاضرة أغلب أيام العام، كأنها تذكّر الجميع بأن الضوء هنا ليس طارئا، بل هو جزء من هوية المكان.
مدينة الضوء الذي لا ينام والظلال التي لا تنقضي
عام 2021 بلغ تعداد سكان لوس أنجلس نحو أربعة ملايين نسمة، بزيادة تجاوزت الخمسة في المئة منذ 2010. مساحتها الممتدة على 468 ميلا مربعا من اليابسة و34 ميلا مربعا من المسطحات المائية تجعلها مدينة أفقية بامتياز. في أفقها، لا يكثر صعود البنايات الشاهقة؛ فهنا لا يزيد ارتفاع معظم الأبنية عن ثلاثين طابقا، باستثناء بعض المعالم الحديثة مثل مركز “ويلشاير الكبير” بسبعين طابقه، الذي يقف كرمز للقليل الذي أراد تحدي الأفق الأفقي.
اقتصاد المدينة مرآة لتعدد وجوهها: من الإنتاج التلفزيوني وصناعة الأفلام وألعاب الفيديو والموسيقى، إلى الصناعات البترولية والأزياء والإبداع التكنولوجي. ميناء لوس أنجلس، الذي يطل على المحيط، هو عصب التجارة ومصدر رزق لعشرات الآلاف، فيما تشكل الرعاية الصحية والتعليم والإعلام والترفيه ركائز أساسية لاقتصادها.
لكن إذا كان اقتصادها ضخما ومتعدد المحاور، فإن سياحتها قلب نابض آخر؛ إذ تضم عددا كبيرا من المتاحف وصالات العرض، من أبرزها “متحف مقاطعة لوس أنجلس للفنون”، وهو الأكبر في غرب الولايات المتحدة، ويجذب قرابة المليون زائر سنويا.
رمز المدينة الأشهر، لافتة “هوليوود”، يطل من جبل ماونت لي كإعلان مفتوح عن الحلم الأميركي، حلم صُنع هنا وصُدّر إلى العالم. وإلى جانب هذا، تتناثر معالم أخرى بين العلم والترفيه، مثل القطار الجبلي “رحلة الملائكة” الذي يربط بين تاريخ المدينة الحافل وتضاريسها الحادة، ومرصد جريفيث الذي يفتح قبابه السماوية لزوار يتطلعون إلى ما وراء النجوم.
حتى في الرياضة، تتعدد وجوه المدينة: من ملعب “دودجر” للبيسبول، إلى “بانك أوف كاليفورنيا” لكرة القدم، و”هوندا سنتر” لهوكي الجليد. أما الإعلام، فهو ذراعها الطويلة الأخرى، إذ تحتضن مكاتب وأستوديوهات كبرى الشبكات العالمية مثل ABC وCBS وFOX وNBC.
لوس أنجلس مدينة تتحرك على عجلات؛ فشبكة الطرق السريعة التي تحيط بها وتخترقها جعلت التنقل بينها وبين مدن أخرى أكثر سلاسة، فيما تدير هيئة النقل بالمقاطعة نظاما واسعا من الحافلات وخطوط المترو والسكك الحديدية. ويظل مطار لوس أنجلس الدولي، برحلاته الداخلية والخارجية، هو رئتها التي تتنفس عبرها حركة البشر من وإلى العالم.
أبواب بلا وعود
في التعليم، تضم المدينة ثلاث جامعات رئيسية: “جامعة ولاية كاليفورنيا – لوس أنجلس” (Cal State LA)، و”جامعة ولاية كاليفورنيا ـ نورثريدج” (Cal State Northridge)، و”جامعة كاليفورنيا ـ لوس أنجلس” (UCLA)، إلى جانب عشرات المعاهد والمراكز التعليمية. لوس أنجلس أيضا وجهة مفضلة للطلبة الدوليين، لا لدراسة اللغة الإنجليزية فحسب، بل لخوض تجربة الحياة الأميركية بكل تفاصيلها.
المؤسسات والمعاهد هنا تتنافس في تقديم برامج مكثفة أو طويلة الأجل، مزجا بين الدراسة الأكاديمية والأنشطة الثقافية والاجتماعية والجولات الميدانية، من معهد EC English إلى FLS International، ومن Kaplan إلى EF Education وغيرها. هذه البيئة التعليمية المتنوعة تمنح الطالب فرصة لتعلّم اللغة في قاعة الدرس، وتطبيقها في الشارع، على الشاطئ، وفي المقاهي، وحتى في طوابير السينما.
وربما هنا تكمن إحدى أجمل مفارقات لوس أنجلس: فهي في الوقت ذاته مدينة الحلم والفرصة، ومدينة الامتحان الصعب للانتماء. تمنحك المساحة لتكون ما تريد، لكنها لا تمنحك بالضرورة الإحساس الفوري بأنك أصبحت جزءا منها. قد تغريك بشمسها وبحرها وأفقها الواسع، لكنها تحتفظ بمسافة بينها وبينك، كما لو أنها تقول: “اقترب بقدر ما تستطيع، لكنك ستظل دائما ضيفا في وليمة لا تنتهي.”
بعد شهر ونيّف من التجوال بين أحيائها، أدركت أن لوس أنجلس يمكن أن تمنحك كل شيء تقريبا: فسحة الحلم، ووفرة الإمكانات، وتعدد المشاهد، لكنها تحجب عنك شيئا أساسيا هو الانتماء الفوري. قد تعيش فيها سنوات، وتظل تبحث عن قلبها الذي لا يكشف نفسه بسهولة. وربما في هذا يكمن سرها الحقيقي: إنها تجسيد مكثّف للحلم الأميركي ـ مفتوحة الأبواب أمام الجميع، لكنها لا تعد أحدا بوعد دائم.