الموسيقى تعزف على وتر الحياة في غزة

وكالة أنباء حضرموت

ملأ صوت أغنية يرددها فتى أرجاء خيمة في مدينة غزة مع ألحان هادئة يعزفها المغنون المساعدون، لتتسلل الموسيقى الناعمة إلى شوارع يسودها هذه الأيام إيقاع القنابل والرصاص والقتل.

كان عدد من الطلاب صغار السن يحضرون درسا في الرابع من أغسطس يقدمه مدرسون من معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى والذين واصلوا دروسهم في مخيمات النزوح والمباني المدمرة.

تقول ريفان القصاص (15 عاما) والتي بدأت تعلّم العزف على العود في التاسعة من عمرها “عندما أعزف، أشعر وكأنني أحلّق بعيدا،” مضيفة “الموسيقى تمنحني الأمل وتهدئ مخاوفي”.

تأسس معهد الموسيقى في الضفة الغربية وكان بمثابة شريان حياة ثقافي لغزة منذ أن افتتح فرعا هناك قبل 13 عاما، حيث كان يدرّس الموسيقى الكلاسيكية إلى جانب الأنواع الشعبية حتى أطلقت إسرائيل حربها في السابع من أكتوبر 2023.

وقبل اندلاع القتال، كانت إسرائيل تمنح أحيانا أفضل الطلاب تصاريح خروج للسفر خارج غزة للعزف مع أوركسترا فلسطين للشباب، وهي الفرقة الموسيقية المتجولة التابعة لمعهد الموسيقى. أما الآخرون، فقد كانوا يشاركون في فعاليات داخل غزة ويقدمون حفلات موسيقية عربية وغربية.

وخلال درس الأسبوع الماضي، تجمع أكثر من 10 طلاب تحت خيمة بلاستيكية للتدرب على الآلات الموسيقية المحفوظة بعناية لحمايتها من أضرار الحرب. وشاركوا جميعا في العزف والغناء.

وغنى فتى “لن تذبل فينا ورقة تين،” وهي جملة من أغنية تحظى بشعبية كبيرة وترثي خسائر الفلسطينيين عبر الأجيال من النزوح منذ قيام إسرائيل عام 1948.

وكانت هناك ثلاث طالبات يتدربن على أغنية (غرين سليفز) “الأكمام الخضراء” على الغيتار أمام الخيمة، بينما كانت مجموعة أخرى من الفتيان تعزف إيقاعات على طبول يدوية شرق أوسطية.

ويوضح فؤاد خضر منسق الفصول الدراسية المعاد إحياؤها للمعهد أن آلات موسيقية قليلة نجت من القتال. واشترى المعلمون بعض الآلات من نازحين آخرين ليستخدمها الطلاب، لكنه أضاف أن بعضها تحطم جراء القصف.

وأشار خضر إلى أن المدربين يجرّبون صنع آلاتهم الإيقاعية الخاصة من علب الصفيح والعبوات الفارغة لتدريب الأطفال.

في أوائل العام الماضي، كان أحمد أبوعمشة مدرس الغيتار والكمان صاحب اللحية الكبيرة والابتسامة العريضة من أوائل المعلمين والطلاب الذين بدأوا في تقديم الدروس مرة أخرى بعدما فرّقتهم الدروب.

وبعد بدء وقف لإطلاق النار في يناير، كان أبوعمشة (43 عاما) من بين عشرات الآلاف من الأشخاص الذين انتقلوا شمالا من جديد إلى مدينة غزة التي دمر القصف الإسرائيلي معظم أنحائها.

وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، ظل يعيش ويعمل في المنطقة المركزية للمدينة، برفقة زملائه الذين يدرّسون العزف على العود والغيتار والطبول اليدوية والناي للطلاب الذين يستطيعون الوصول إليهم في الخيام أو المباني المدمرة في كلية غزة. كما يتوجهون إلى رياض الأطفال لتقديم جلسات للصغار.

ووفقا لمعهد الموسيقي فإن المعلمين يقدمون أيضا دروسا في جنوب ووسط غزة، حيث قام 12 موسيقيا وثلاثة مدرسي غناء بالتدريس لما يقارب 600 طالب في شتى أنحاء القطاع في يونيو.

ويوضح أبوعمشة أن المعلمين وأولياء أمور الطلاب يشعرون حاليا “بقلق بالغ” من تهجيرهم مجددا.

ويؤكد الطلاب والمعلمون أنهم مضطرون للتغلب على ضعفهم الناجم عن نقص الغذاء حتى يتمكنوا من حضور الفصول الدراسية.

وتروي سارة السويركي (20 عاما) أن الجوع والتعب يجعلانها في بعض الأحيان غير قادرة على قطع المسافة القصيرة إلى دروس الموسيقى التي تحضرها مرتين كل أسبوع لكنها تحب تعلم العزف على الغيتار.

وتقول “أحب اكتشاف أنواع موسيقية جديدة، وخاصة موسيقى الروك. أنا أعشق موسيقى الروك”.

في إحدى الغرف المتبقية في الطابق العلوي بكلية غزة، حيث الجدران المليئة بآثار الشظايا والنوافذ المحطمة، تحضر ثلاث فتيات رفقة فتى درسا للعزف على الغيتار.

وقال معلمهم محمد أبومهدي (32 عاما) إنه يعتقد أن الموسيقى يمكن أن تساعد في شفاء سكان غزة نفسيا من آلام القصف والفقد ونقص الإمدادات.

ويوضح “ما أفعله هنا هو إسعاد الأطفال من خلال الموسيقى لأنها واحدة من أفضل الطرق للتعبير عن المشاعر”.

وقالت إليزابيث كومز التي تدير برنامج العلاج بالموسيقى في جامعة جنوب ويلز البريطانية وأجرت أبحاثا مع الفلسطينيين في الضفة الغربية إن المشروع يمكن أن يساعد الشبان على التعامل مع الصدمات والتوتر وتعزيز شعورهم بالانتماء.

وأضافت “بالنسبة إلى الأطفال الذين تعرّضوا لصدمات نفسية شديدة أو يعيشون في مناطق صراعات، فإن مواصفات الموسيقى نفسها يمكن أن تساعد الناس وتدعمهم حقا”.

وقال مدرس العود إسماعيل داود (45 عاما) إن الحرب سلبت الناس إبداعهم وخيالهم، واختصرت حياتهم في تأمين أساسيات الحياة كالطعام والماء. وتمثل العودة إلى الفن هروبا وتذكيرا بالإنسانية الأسمى.

وأضاف داود “الآلة الموسيقية تمثل روح العازف، تمثل رفيقه، كيانه، وصديقه.. الموسيقى بصيص أمل يتمسك به جميع أطفالنا وشعبنا في الظلام”.