انخفاض التضخم لا يخفي أزمات مصر الاقتصادية

وكالة أنباء حضرموت

 بالرغم من أن الاقتصاد المصري شهد عدة تحسنات خلال العام الماضي، مثل انخفاض معدل التضخم وتدفق تمويل خارجي، إلا أنه لا يزال يواجه أزمات حقيقية. وتستنزف المدفوعات العالية للديون، والانخفاض الحاد في إيرادات قناة السويس، وتراجع إنتاج الغاز، وارتفاع واردات القمح لتلبية احتياجات السكان المتزايدين، بالإضافة إلى الدور الكبير للجيش في الاقتصاد، موارد البلاد بشكل مستمر.

وتشير التقارير إلى أن معدل التضخم في مصر انخفض إلى 14.9 في المئة في يونيو 2025 بعد أن وصل إلى 38 في المئة في سبتمبر 2023. وبالنسبة إلى المصريين الذين يواجهون أزمة معيشية كبيرة، فإن تراجع أسعار السلع الاستهلاكية الحضرية بنسبة 0.1 في المئة في يونيو مقارنة بزيادة 1.9 في المئة في مايو يعد خبرا جيدا.

ويتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 4.2 في المئة في السنة المالية 2025، كما استقر الجنيه المصري بعد خسارته لأكثر من ثلثي قيمته مقابل الدولار في السنوات الماضية. واستفادت مصر من قرض بقيمة 8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي في مارس 2024، واستثمارات كبيرة من بعض دول الخليج، مثل الإمارات التي تعهدت بـ35 مليار دولار معظمها لمشروع سياحي ضخم في رأس الحكمة على البحر المتوسط.

وشهدت السياحة وتحويلات العاملين تحسنا خلال العام الماضي، ما ساعد إلى حد ما على تحسين سيولة البنوك التجارية وزيادة الإقراض للقطاع الخاص، خاصة في الصناعة والخدمات. ويقول المحلل الاقتصادي غريغوري أفتانديليان، في تقرير نشره المركز العربي – واشنطن دي سي، إنه مع ذلك تواجه مصر ثلاثة تحديات اقتصادية رئيسية. يتمثل التحدي الأول في تراجع كبير في إيرادات قناة السويس منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023.

وتمثل إيرادات رسوم المرور عادةً حوالي 15 في المئة من عائدات العملة الصعبة، وبلغت ذروتها 9.4 مليار دولار في 2023. لكن الهجمات الحوثية في البحر الأحمر على السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل دفعت الكثير من السفن إلى تجنب ممر قناة السويس والبحر الأحمر، ما أدى إلى انخفاض إيرادات القناة بنسبة 60 في المئة.

◙ معدل التضخم في مصر انخفض إلى 14.9 في المئة في يونيو 2025 بعد أن وصل إلى 38 في المئة في سبتمبر 2023

ويُجبر استمرار هذه الهجمات شركات الشحن الدولية على اختيار طرق أطول وأغلى حول رأس الرجاء الصالح. وثاني التحديات هو أزمة إمدادات الغاز الطبيعي، بسبب زيادة الطلب المحلي وقلة الإنتاج ونقص الواردات. وشهدت حقول الغاز الكبيرة مثل “ظهر” تراجعا في الإنتاج منذ 2022، وتعطلت واردات الغاز من إسرائيل بعد توقف حقل “ليفاثان” في يونيو 2025 خلال الحرب بين إسرائيل وإيران، ما أجبر مصر على فرض تقنين في الكهرباء واستخدام الديزل، مع محاولات لتأمين شحنات الغاز المسال.

ويصف خبير الطاقة المصري علي متولي هذا الحل بأنه مكلف، ويناشد بزيادة الاستثمار في الإنتاج المحلي. أما التحدي الثالث فهو اعتماد مصر الكبير على واردات القمح لتغذية سكانها الذين يقارب عددهم 110 ملايين نسمة. وتتوقع تحليلات الحبوب استيراد مصر 13 مليون طن في السنة المالية 2025 – 2026، مثل العام السابق، مع زيادة طفيفة فقط في الإنتاج المحلي الذي لا يكفي لتقليل حجم الواردات.

ويشكل استيراد القمح عبئا ضخما على احتياطات العملة الأجنبية، مع اعتماد أكثر من 70 في المئة من السكان على الخبز المدعوم، ما يضغط بشدة على الميزانية، حيث خفّضت القاهرة الدعم لكنها لم تلغِه بالكامل لتجنب اضطرابات داخلية. وعلى صعيد آخر يبلغ الدين الخارجي لمصر حوالي 153 مليار دولار حتى منتصف 2024، ما يعادل 40 في المئة من الناتج المحلي، وتستحوذ خدمة الدين على 65 في المئة من الإنفاق الحكومي في السنة المالية 2025 – 2026.

ويرصد صندوق النقد الدولي بقلق توسع دور الجيش في الاقتصاد المصري، حيث يمتلك 97 شركة، 73 منها في الصناعة، وتسيطر هذه الشركات على حوالي 36 في المئة من السوق في منتجات مثل الرخام والجرانيت والإسمنت والصلب.

ورغم تعهدات الحكومة بخصخصة هذه الشركات، لم يتم تحقيق تقدم يذكر، ما يثبط عزيمة المستثمرين الخاصين بسبب الامتيازات التي تحظى بها شركات الجيش. والطبقة الوسطى في مصر تعاني أيضا، إذ تقلصت قدرتها الشرائية مع تضخم مرتفع وانخفاض حاد في قيمة الجنيه مقابل الدولار (49 جنيها للدولار مقابل 16 في 2022)، ما رفع كلفة الغذاء والسلع المستوردة على الأسر المصرية.

ورغم الخطاب الرسمي المتكرر عن الإصلاح والتنمية تتفاقم في مصر أزمة ثقة متجذرة بين الدولة والمواطن، يغذّيها التدهور المتواصل في المستوى المعيشي، والتفاوت الحاد في توزيع الأعباء الاقتصادية. وأدت سنوات من السياسات التقشفية، التي جاءت بتوصيات مباشرة من صندوق النقد الدولي، إلى إضعاف القدرة الشرائية لغالبية المصريين، وتآكل الطبقة الوسطى التي لطالما اعتُبرت العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد.

ويتجلى هذا الاحتقان في اتساع الفجوة بين تطلعات الشارع والقرارات الاقتصادية للحكومة، خاصة مع استمرار الإنفاق على مشاريع ضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة بكلفة تفوق 58 مليار دولار، في وقت تعاني فيه المدارس والمستشفيات والبنية الأساسية في الأقاليم من نقص في الموارد والخدمات.

ويشعر المواطن العادي بأن الدولة تسير في مسار موازٍ، منفصل عن واقعه اليومي، حيث تتصدر المشروعات الفاخرة المشهد، بينما ترتفع أسعار السلع الأساسية وتُرفع تدريجيا مظلة الدعم الاجتماعي.

ومع ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، لم تعد الفجوة بين الدخول والأسعار تحتمل المزيد من المواربة. فالقدرة الشرائية لأسر كانت تُصنّف ضمن الطبقة الوسطى أصبحت مهددة، حيث تشير تقارير مصرفية إلى انخفاض حاد في الدخل المتاح بعد الإنفاق على الضروريات، ما يدفع الكثير من الأسر إلى الاستدانة أو تقليص سلع كانت سابقًا أساسية.

وما يفاقم الأزمة شعور متزايد في الشارع بأن التضحيات موزعة بشكل غير عادل. فبينما يُطلب من المواطن “شد الحزام”، تُمنح امتيازات واسعة لمؤسسات تابعة للدولة، خاصة القوات المسلحة، في شكل إعفاءات ضريبية أو احتكار مشاريع إستراتيجية، وهو ما يزيد الإحساس بالتمييز الاجتماعي والاقتصادي.

ويرى كثيرون أن ما كان يُسوّق سابقًا على أنه “عقد اجتماعي صامت” -يقوم على استقرار مقابل تحسين تدريجي في المعيشة- قد تم كسره من جانب واحد. وبينما لا يُتوقع في المدى القريب انفجار اجتماعي على غرار ما حدث في 2011، فإن مراكمة الاحتقان بصمت، في ظل غياب قنوات سياسية شرعية للتنفيس أو التعبير، تشكّل بيئة هشة قابلة للاهتزاز عند أي صدمة مفاجئة.

وفي قلب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمصر تبرز العلاقة المختلّة بين الدولة والقطاع الخاص كأحد أبرز العوائق البنيوية أمام أي مسار إصلاحي فعلي. وبدلاً من أن يتكامل الطرفان ضمن رؤية تنموية قائمة على الشراكة والتنافس العادل، أصبحت العلاقة تتسم بطابع تسلّطي من جانب الدولة، وتحديدًا المؤسسة العسكرية التي تمددت بشكل متسارع في السنوات الأخيرة إلى قطاعات إنتاجية وخدمية رئيسية.

◙ إصلاح العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص لم يعد ترفًا اقتصاديًا، بل هو ضرورة وجودية لإنقاذ الاقتصاد المصري من دائرة التباطؤ

وهذا التمدد لا يقتصر على الدور التقليدي للمؤسسة العسكرية في مجالات الأمن والدفاع، بل يشمل الآن قطاعات مثل الصناعات الغذائية والإسمنت والبناء والبنية التحتية والنقل وإدارة الأسواق. ويستفيد هذا التوسع من مزايا تفضيلية متعددة، مثل الإعفاءات الضريبية وسهولة تخصيص الأراضي وإمكانية تجاوز الإجراءات البيروقراطية التي تكبل في المقابل المستثمرين من القطاع الخاص.

وتُدار هذه الكيانات العسكرية بمنأى عن الرقابة البرلمانية أو المحاسبة المالية العامة، ما يضعف الشفافية ويخلق حالة من الغموض في السوق.وتحت هذا الظل يعيش القطاع الخاص ما يمكن وصفه بـ”الجمود التحفظي”، أي حالة من التردد في التوسع أو الدخول في استثمارات جديدة، خشية التنافس مع مؤسسات محصنة سياسيا ومؤسسيًا.

وتؤكد مراجعات صندوق النقد الدولي، وآخرها في يوليو 2025، أن هيمنة الشركات العسكرية وغياب تكافؤ الفرص يُعدّان من أكبر العوائق أمام جذب الاستثمارات الأجنبية وتوسيع قاعدة الإنتاج. فقد حذّر الصندوق من أن “استمرار الوضع الحالي من شأنه ردع المستثمرين، وتقويض بيئة الأعمال على المدى البعيد.”

وتبدو أزمة الثقة التي تعانيها بيئة الاستثمار في مصر ليست مجرد انطباع عابر، بل نتيجة مباشرة لتجارب سابقة، حيث جرى الاستيلاء على مشروعات أو تغييب المنافسة الحرة لصالح أطراف متنفذة. وأفضى هذا الواقع إلى عزوف شركات محلية عن الدخول في المناقصات العامة، أو تحويل نشاطها إلى قطاعات منخفضة الربحية لكنها أكثر أمانا. أما بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب فقد أصبحت مصر سوقًا مرتفعة المخاطر، خصوصًا في ظل التدخلات السياسية وضعف القضاء التجاري وتقلب سعر العملة.

وتكمن المفارقة في أن الخطاب الرسمي ما انفك يكرر أهمية القطاع الخاص كـ”قاطرة للنمو”، فيما الممارسات الميدانية تتنافى تمامًا مع هذا التصور، حيث لم تُفعّل حتى الآن أي خطة جادة لتصفية أو خصخصة الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية، رغم التعهدات المكررة في إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. بل إن بعض المحاولات المحدودة للطرح توقفت، أو جرى التراجع عنها دون توضيح، ما فاقم من حالة انعدام اليقين لدى المستثمرين.

وتبدو التنمية في مصر محكومة بـ”نمو تحت السيطرة”، يُسمح به فقط في حدود لا تُهدد هيمنة الدولة على مفاصل الاقتصاد. وهو ما يجعل النمو الاقتصادي هشًّا، ومعتمدًا على القروض الخارجية، لا على إنتاجية حقيقية من السوق المحلية. أما الابتكار وريادة الأعمال فهما ضحيتان مباشرتان لهذا الانسداد، حيث يفتقر الشباب والمبادرون إلى بيئة تمويل ومنافسة عادلة تمكّنهم من البروز في السوق.

ويشير اقتصاديون إلى أن إصلاح العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص لم يعد ترفًا اقتصاديًا، بل هو ضرورة وجودية لإنقاذ الاقتصاد المصري من دائرة التباطؤ والتبعية المالية.