فتاوى الذكاء الاصطناعي تهدد عرش رجال الدين في مصر
أمام انقسام الآراء الدينية في مصر حول أحقية الأب الذي لم يُنجب ذكورا في كتابة ميراثه لبناته وهو على قيد الحياة، اضطر الأب عماد محمد صاحب الخمسين عاما إلى استفتاء تقنية الذكاء الاصطناعي حول جواز قيامه بكتابة ممتلكاته لبناته حفاظا على مستقبلهن، فجاءه الرد بإباحة هذا التصرف وعدم تعارضه مع الشريعة.
ومع تكرار شريحة من المصريين اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي لاستفتاء الرأي الشرعي حول بعض المسائل الجدلية سارع أئمة وعلماء بالأزهر ودار الإفتاء إلى تحريم هذا التصرف، بذريعة أن التقنيات الحديثة ليست مؤهلة لإصدار فتاوى شرعية صحيحة، لأن الرؤى الفقهية يفترض أنها حكر على رجل الدين المثقف الواعي.
ولم يقتنع الأب عماد بلغة التحريم التي ساقتها المؤسسة الدينية بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى، وبدأ يلجأ إليه كلما احتاج إلى رأي شرعي في قضية تثير فضوله، معقبا “الناس يلجأون إلى الذكاء الاصطناعي بسبب انقسام رجال الدين في الكثير من القضايا الحياتية، وكل قضية تخضع لوجهات نظر مختلفة”.
المؤسسات الدينية تعاملت باستهتار مع تجديد الخطاب الديني، ما اضطر الناس إلى البحث عن بدائل في الفتوى وإن كانت افتراضية
وأظهر تحريم علماء وأمناء الفتوى لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتاوى أن تلك الجهات تخشى التعرض للتهميش وضياع النفوذ والشعبية، سواء أكانت التقنيات الحديثة صادقة في رؤاها الشرعية أم لا، والمهم أن يتهافت الناس على رجال الفتوى في كل ما يخص شؤون حياتهم، ولا تنقطع علاقاتهم بأيّ جهة دينية.
وقال عماد لـ”العرب” إن دخول رجال الفتوى حياة الناس رسّخ لدى المجتمع أن عدم مباركتهم لكل خطوة بأنها “حرام”، ومع توافر الخدمة بشكل سهل وبسيط عبر التقنيات الحديثة من الطبيعي أن يتراجع دورهم، وأصبح من الممكن الوصول إلى فتوى إلكترونية بطريقة سريعة، وأدلة شرعية، بعيدا عن رجل الدين.
وبرّر مرصد الفتوى التابع لدار الإفتاء المصرية معارضته للاعتماد على الذكاء الاصطناعي بأن غزارة المعلومات المتاحة تتسبب في إنتاج علم سطحي دون تدقيق في نتائج قد لا تحمل معلومات قيمة ورصينة.
وأمام التحولات السريعة التي حدثت في المجتمع، باتت هناك شريحة ممتعضة من اللجوء إلى أيّ جهة تتعامل مع الفتوى بشكل تقليدي، أي أن يذهب المستفتي إلى مقر المؤسسة الدينية أو يتصل بها، أو يستمع إلى بث مباشر يقدمه أحد المفتين الشرعيين لطرح سؤاله، ويمكن تقديم تلك الخدمة بشكل إلكتروني يناسب لغة العصر، شكلا ومضمونا.
ودافع أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أحمد كريمة بأن استفتاء رأي الذكاء الاصطناعي في الفتاوى غير صحيح، ولا يُعقل من أيّ إنسان طبيعي، لأن هذه التقنية في النهاية آلة تخطئ وتصيب، وفتاوى الذكاء الاصطناعي محرّمة ولا يجوز العمل بها أو الاعتماد عليها في تسيير حياة الناس لوجود شكوك في صحتها.
وأوضح لـ”العرب” أن تقنية الذكاء الاصطناعي تصدر فتاوى بناء على بيانات مخزنة، ما يؤدي إلى تغييب الوعي وعدم إعمال العقل والمنطق والأسانيد الشرعية حول كل قضية، فالفتاوى عملية اجتهادية وفق مفاهيم شرعية لا تتوافر في التقنيات الحديثة، وهذا دور علماء الدين، والأمر ليست له علاقة باحتكار الفتوى.
وتدفع المؤسسة الدينية في مصر فاتورة باهظة بعزوف الكثيرين عنها واللجوء إلى الذكاء الاصطناعي، فبعدما اقتنعت أنه لا بديل عنها، ويصعب على أيّ كيان أو جهة أن يحلاّ مكانها بسهولة، وسوف يظل الناس يتعاملون معها بشكل مقدس وعدم هجرها والبحث عن غيرها، صُدمت بالتمرد ضدها لإصرارها على التعاطي بتقليدية.
والأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف، جهات فتوى رسمية في مصر، تعاملت أحيانا باستهتار مع ملف تجديد الخطاب الديني، ولم تقم بتنقيح التراث وما يحويه من رؤى متشددة غير مناسبة للعصر، وبات اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي ضرورة عند شريحة ترفض الاستسلام لقناعات حراس التراث.
ويبدو أن أمناء الفتوى الشرعيين هم من أقنعوا الناس بأن الفتاوى الجاهزة لا مانع منها، ويكفي أن يفتي رجل الدين على طول الخط ويُصدر رأيا قاطعا في نفس توقيت طلب الفتوى، ما يظهر خلال تقنية البث المباشر لمؤسسات الإفتاء على صفحاتهم الرسمية والبرامج التلفزيونية التي تقدم الفتاوى على الهواء للجمهور.
وطرح موقف دار الإفتاء تساؤلا عن سبب إباحة المؤسسة الدينية لرجالها الفتوى دون بحث وتقصّ حول كل سؤال وخلفيات المشروعية والتحريم، ثم تحذر من اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي الذي يُصدر الفتوى في حينها، مع أنه يقدم للمستفتي الكثير من الأدلة والبراهين، ما يثير شكوكا حول التحذيرات المرتبطة بالتوسع في الاعتماد على التقنيات العصرية.
تحريم علماء وأمناء الفتوى لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتاوى أظهر أن تلك الجهات تخشى التعرض للتهميش وضياع النفوذ والشعبية، سواء أكانت التقنيات الحديثة صادقة في رؤاها الشرعية أم لا
ويرد رجل الدين على المستفتي دون أن يقرأ أكثر من تفسير ديني للواقعة المطلوب حسم الرأي فيها، ويُفتي وفق قناعاته الشخصية، والمتابع لطريقة تقديم الفتاوى في تقنيات البث المباشر يكتشف أن ردود المفتين تكون سريعة ودون تفكير أو فحص أو بحث، بعكس الذكاء الاصطناعي الذي يقدم للباحث عن الفتوى، مبرّرات عديدة.
ومن المستحيل على أمين الفتوى القول للسائل، سأبحث في المشكلة أو القضية وأرد بعد الاطلاع على المراجع الدينية المختلفة لتكون الفتوى قاطعة، ما يثير تساؤلات حول أسباب الردود القاطعة في قضايا معقدة، وبينها ما يرتبط بالاقتصاد والتعاملات المالية، أي ملفات حديثة العهد، ولم تُحسم من المؤسسات الدينية.
ويفسر هوس المجتمع بالرأي الديني حول كل شيء بأنه نتيجة طبيعية لما زرعته المؤسسات الدينية في عقول الناس وتغلغلها في شؤون حياتهم، وهذا لا يعني أن يواجَه تهميشها واللجوء إلى تقنيات معاصرة بالتحريم المطلق من رجال الدين، لمجرد أنهم يعانون التهميش أحيانا، والذكاء الاصطناعي بديل طالما يصرون على تقليديتهم.
وتأمل كل مؤسسة أن تظل هستيريا الحصول على فتوى دينية منها أمر واقع، لإثبات أنها مهمة مجتمعيا، والإيحاء أمام السلطة والناس أنها تحظى بالثقة، ما يعطيها ظهيرا شعبيا ضد النيل منها والضغط عليها لتحسين مسارها، ما يفسر جزءا من العداء لأيّ تقنية حديثة تنافسها في عملية الفتوى.
وبعيدا عن مآرب التحريم الصادرة عن جهات الفتوى ضد التعامل مع الذكاء الاصطناعي، فإن المؤسسات الدينية بمصر يعنيها أن تظل علاقتها بالناس أقرب إلى الإدمان، وتصبح بالنسبة إلى المواطن الملاذ الآمن الذي يحتمي برأيها ليظل المفتي يرى في المستفتي الوحيد القادر على أن يجعله ذا قوة ونفوذ وشعبية طوال الوقت.
ومطلوب من كل مؤسسة، قبل أن تُحرّم على الناس اللجوء إلى التقنيات الحديثة، أن تدرس الخلفيات وتُدرك أنها المسؤولة عن التمرد ضدها، ويكفي التخبط بين مؤسسات دينية رسمية حول بعض القضايا المصيرية، فقد يُحرّم الأزهر فعلا بعينه، ويحلّله أئمة الأوقاف، ما يدفع الناس للذهاب إلى الذكاء الاصطناعي بحثا عن رأي قاطع.