بخطاب ورمز وأكثر من رسالة.. بوركينا فاسو ترمم صدع الإرهاب

وكالة أنباء حضرموت

لم يكن مجرد خطاب، بل كلمات مكثفة بعثت بأكثر من رسالة وشحنتها رمزية المكان بـ«ثوريتها» فكانت النتيجة حروفا «أقوى من الرصاص».

هذا ما أجمع عليه خبراء في قراءتهم لخطاب ألقاه الرئيس الانتقالي في بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، وهو الأول له منذ سلسلة الهجمات الإرهابية الموجعة التي شهدها البلد الأفريقي في مايو/أيار الماضي.

واعتبر هؤلاء، في قراءات منفصلة لـ«العين الإخبارية»، أن الخطاب يعكس تحولًا رمزيًا واستراتيجيًا في طريقة تعاطي المجلس العسكري مع التصعيد الإرهابي، ويشير إلى محاولة واعية لاستعادة الهيبة والسيطرة المعنوية في لحظة مفصلية.

«عودة قائد»

في أول خطاب ميداني له منذ سلسلة الهجمات الإرهابية، ظهر النقيب إبراهيم تراوري، رئيس المرحلة الانتقالية في بوركينا فاسو، يوم الأحد الماضي في معسكر توماس سانكارا بمدينة بو، ليخاطب قواته المسلحة.

وهذه الزيارة لم تكن مجرد تفقد ميداني؛ بل حملت دلالات رمزية، سياسية وعسكرية عميقة، في وقت حرج تمر به البلاد، وفق خبراء من مراكز بحثية أفريقية وأوروبية.

والشهر الماضي، شهدت مناطق بوركينية عديدة مثل دجيبو ودياباغا وسولي تصعيدًا دمويًا، نسب إلى «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»).

وهذه الهجمات سلطت الضوء مجددًا على التحديات الأمنية الكبرى التي تواجه النظام العسكري، وعلى حاجة القيادة إلى إعادة الإمساك بالزخم المعنوي والمؤسسي في وجه تنامي القلق الشعبي.

وفي كلمة مرتجلة دامت نحو 15 دقيقة، قدم إبراهيم تراوري ما يشبه تقييمًا مرحليًا، معتبرًا أن «الحصيلة إيجابية وسيادية»، وقال مخاطبًا الضباط المتدربين: «نحن لا نقاتل لأننا نرغب في الحرب، بل لأننا تعرضنا للهجوم. لماذا فرضوا علينا هذه الحرب؟ لأنهم يريدون أرضنا… بدوننا».

وأوضح أن «العدو الخارجي غير محدد»، لكنه ألمح إلى قوى استعمارية وأطراف «لا وطنية»، دون تسميتها صراحة.

وأثنى تراوري على شجاعة الجنود، لكنه وجه انتقادًا صارمًا لاستخدام الهواتف في العمليات، مؤكدًا أن الكثير من الهجمات «الإرهابية» نجحت بسبب إفشاء المواقع من خلال الأجهزة المحمولة.

وأكد رفض أي شكل من التفاوض مع العدو، قائلا إن «البوركيني لن يتفاوض مع عدوه. سنقاتل وسننتصر. لن نتنازل، على الإطلاق»، قبل أن يحث الجنود، في ختام كلمته، على لعب دور سفراء سلام وتماسك اجتماعي بين السكان المدنيين».

رمزية
يرى المحلل الفرنسي جون-مارك دوفال، الباحث في «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجيات» في باريس، أن «اختيار معسكر توماس سانكارا هو فعل سياسي في حد ذاته».

وتوماس سانكارا، قائد عسكري وزعيم سياسي أفريقي من بوركينا فاسو، حكم بلاده 4 سنوات وأجرى فيها تغييرات اقتصادية واجتماعية وأكسبها حضورا على المستوى الدولي في دعم قضايا التحرر.

جرى اغتياله عام 1987 في انقلاب عسكري أطاح بحكمه، وتحولت شخصيته إلى أيقونة لدى أجيال من الأفارقة، لدرجة أنه كثيرون يلقبونه بـ«تشي غيفارا الأفريقي».

ويقول دوفال، في حديث لـ«العين الإخبارية»، إن «تراوري لا يخفي تشبهه بالرئيس الثوري الأسبق، سواء في خطابه السيادي أو في رمزية العداء للنفوذ الفرنسي والأجنبي».

وأوضح أنه «من خلال خطابه وسط الجنود في هذا المكان، يعيد ربط نفسه مباشرة بالإرث الثوري للسيد سانكارا: سيادة، وحدة وطنية، ومقاومة الإمبريالية».

وبحسب الخبير، فإن «سانكارا لم يكن مجرد زعيم، بل رمز تحرري في وعي الشعوب الأفريقية. استحضاره الآن في خضم أزمة أمنية يهدف إلى بعث الثقة والشرعية، داخليًا وخارجيًا».

«رد محسوب»
من جانبه، قال الدكتور كوامي دابو، الباحث في «مركز الدراسات الأمنية لدول الساحل وغرب أفريقيا» في واغادوغو، إن «هذه الزيارة ليست عفوية. إنها رد ميداني محسوب على حملة التشكيك في قدرة المجلس العسكري على احتواء التهديد الإرهابي».

ورأى أن «اختيار المعسكر لا يعكس فقط رمزية سانكارا، بل أيضًا رسالة واضحة مفادها أن الجيش هو الحامي الأول للثورة والدولة».

وبالنسبة له، فإن «الرسالة الضمنية لتراوري هي: نحن مستمرون، رغم كل شيء. لا تفاوض، لا تراجع، ولا تساهل في الميدان. وهذا الخطاب قد يُعيد الثقة، ولو جزئيًا، في الشارع المتعب من تكرار الهجمات».

وأشار دابو إلى أنه رغم أن «الخطاب كان قويًا في نبرته السيادية، إلا أن تراوري تجنب الإشارة المباشرة إلى هجمات مايو/أيار الماضي، ما يطرح سؤالًا مشروعًا: هل هي محاولة لتفادي إبراز ثغرات الأداء الأمني؟ أم ربما استراتيجية لرفع المعنويات دون الانجرار إلى نبرة دفاعية؟».

واعتبر أن «تجاهل الهجمات لا يعني إنكارها، بل قد يُقرأ كتكتيك سياسي: لا يريد الظهور كقائد في موقع الاعتذار أو التبرير. بل يقدّم نفسه كصاحب رؤية كفاحية طويلة الأمد».

«رصاص الكلمات»
ويعتقد كوامي أنه «من المنطقي تفسير الخطاب بأنه محاولة لاستعادة الهيبة والقيادة المعنوية، بعد فترة ارتباك أمني وإعلامي».

ولفت إلى أن «القوة لا تُستعاد بالرصاص فقط، بل بالكلمة. وميدان سانكارا هو أنسب مسرح لبعث هذه الرسالة: نحن لم نُهزم بعد، ولسنا في موقع دفاع».

كما اعتبر أن «إبراهيم تراوري لم يكتف في خطابه بمخاطبة الجنود، بل خاطب كل من يتشكك في صلابة الدولة»، مشيراً إلى أنه «اختار موقعًا مشحونًا بالرمزية الثورية، ولغة حازمة تتماهى مع روح المقاومة التي طالما تغنّى بها توماس سانكارا».

وتابع: «الرسالة واضحة: المعركة طويلة، لكن لا تفاوض، ولا تراجع».