حرص سياسي متبادل للتشاور بين السيسي وسعيّد.
دبلوماسية المكالمات الهاتفية تكشف عمق التقارب بين مصر وتونس
جمعت المصالح السياسية بين النظامين المصري والتونسي، وتعززت العلاقات بينهما منذ أن اتخذ الرئيس قيس سعيّد خطوته الكبيرة والاستثنائية حيال قصقصة أجنحة حركة النهضة التونسية في يوليو الماضي، ولا تمر مناسبة هنا أو هناك إلا ويهاتف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نظيره التونسي، والعكس صحيح، وهو ما يعكس المتانة التي وصلتها العلاقات والأهمية التي تنطوي عليها دبلوماسية المكالمات الهاتفية بين الجانبين.
وبادر السيسي الأربعاء بتهئنة سعيّد على تولي الحكومة التونسية مهام منصبها برئاسة نجلاء بودن وتأديتها اليمين الدستورية، وهي خطوة وجدت ارتياحا كبيرا في القاهرة، لأنها تدعم تصورات تهميش حركة النهضة الإخوانية، وأن توجهات الرئيس التونسي تمضي في طريقها الذي يجد تأييدا من نظيره المصري، حيث أزالت الكثير من المخاوف بشأن توغل جماعة الإخوان في منطقة المغرب العربي.
تولدت هواجس القاهرة منذ سنوات بعد صعود جماعة الإخوان بألوانها المغاربية المختلفة، وسيطرة حركة النهضة على الحكم في تونس، وتمكن حزب العدالة والتنمية من قيادة الحكومة في المغرب، وتغلغل قوى إسلامية في نسيج الحكم بالجزائر.
ناهيك عن اتساع نفوذ الإخوان في ليبيا، وهو ما قلل من عملية عزل الجماعة عن حكم مصر منذ سبعة أعوام، لأن تمترس روافدها في الحكم أو بالقرب منه في دول المغرب العربي لم يكن مريحا للقيادة المصرية، وحاولت بلا جدوى سد المنافذ أمامها.
ورغم أن إجراءات الرئيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو الماضي انطلقت من حسابات تونسية بحتة، إلا أنها صبت في صميم المصلحة المصرية، وتعززت عقب الضربة التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية في المغرب وسقوطه في آخر انتخابات عامة.
وتنتظر القاهرة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا قبل نهاية العام الجاري أملا في أن ينكشف فرع جماعة الإخوان وينحصر نفوذه السياسي في طرابلس.
ولم يشعر الرئيس السيسي بالرضاء التام عن تقويض جماعة الإخوان في مصر وهو يرى فروعها لا تزال منتشرة في كل من تونس والمغرب والجزائر وليبيا، ولم تكن الظروف تسمح بتمديد أواصر التعاون الأمني والسياسي في هذا المجال مع هذه الدول التي يمثل التيار الإسلامي فيها خصوصية بعد تجذر عناصره في الحياة السياسية.
وتلقف السيسي إجراءات سعيد، وكانت هي المدخل الذي بدأت العلاقات بين البلدين تعيد تصويب مساراته، فقد أزيحت حركة النهضة عن السلطة وخسرت سيطرتها على مفاصل الحكومة، وجرى تجميد أعمال البرلمان الذي اتخذته الحركة وسيلة للتحكم في توجهات الحكومة، ما وجدت القاهرة فيه مناسبة لتطوير العلاقات مع الرئيس التونسي الذي أصبح بحاجة إلى الاستفادة من الخبرات المصرية المتراكمة في التعامل مع جماعة الإخوان، والتي قادت إلى حشرها في زاوية ضيقة.
ويختلف الواقع المصري عن التونسي في آلية التعامل مع القوى السياسية بما فيها جماعة الإخوان، والأدوات المستخدمة، والدور المحوري الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في مصر مقارنة بتونس، ووضعها في قلب السلطة في الأولى وعلى هامشها في الثانية، وهذا لم يمنع من زيادة التعاون في المجالات الأمنية لأن الخصم في البلدين ينطلق من منهج عقائدي واحد ولو تظاهرت النهضة بقدر من الليونة السياسية.
ومنذ انطلاق موجة ثورات الربيع العربي، ظل النظام المصري يبحث عن صديق له في منطقة شمال أفريقيا ولم يجد في ظل المسافات السياسية التي تفصل بينه وبين كثير من حكام هذه المنطقة، حيث تخوض ليبيا صراعا منذ عشر سنوات تحول إلى أحد التهديدات الخطيرة للأمن القومي المصري.
ولم تشعر القاهرة بود كاف مع الجزائر جراء التباين الحاصل في تصورات كل طرف في بعض الملفات الإقليمية، وعودة ما يمكن وصفه بالشوفينية إلى الحكم في الجزائر، وتخبط قيادته أحيانا في التوجهات الخارجية، فضلا عن المرونة الزائدة التي يتعامل بها مع القوى الإسلامية في المنطقة، وهو ما قلل من أهمية الانسجام الحاصل بين المؤسسة العسكرية في كل من القاهرة والجزائر.
وأدت سياسة الحياد التي تتبعها المملكة المغربية إلى الاحتفاظ بعلاقة باردة مع مصر، يشوبها الكثير من الود الظاهر، لكنه لا ينعكس على تفاهم كبير في المصالح السياسية، وتكاد تكون القواسم في كثير من المجالات الحيوية غائبة، علاوة على حرص القيادة المصرية على الاحتفاظ بمسافة واحدة بين النظامين الجزائري والمغربي ومعرفتها بالحساسية التي يمثلها الانحياز لطرف معين، وبدت العلاقة مع كليهما تحتفظ بقدر من التوازن النسبي.
ترى القاهرة ضرورة في استثمار العلاقة الطيبة مع الرئاسة التونسية والعمل على تطويرها مستقبلا، ويمكن أن تصبح إحدى ركائزها في شمال أفريقيا التي عانت كثيرا من عدم التفاهم الكافي مع قياداتها الفترة الماضية بسبب تجذر عناصر الإخوان في الحياة السياسية، ووجود بون شاسع في التصورات الإقليمية.
وترى الجماعة في النظام المصري خصما عنيدا لها من الواجب محاربته ومنع وصوله إلى منطقة المغرب العربي بأي ثمن، والعمل على إفساح المجال لدخول أنظمة منافسة له، الأمر الذي منح تركيا فرصة لتوسيع نفوذها في شمال أفريقيا، وظهرت تجليات ذلك عسكريا واقتصاديا في ليبيا، وأخذت مؤشرات سياسية عدة تظهر في كل من تونس والجزائر والمغرب وحتى موريتانيا.
وتبدي القاهرة استعدادا كبيرا للتعاون مع الرئيس سعيد وضاعفت الرهان عليه منذ اتخاذه إجراءات صارمة ضد حركة النهضة وإصراره على التمسك بها، ولا يفوت السيسي مناسبة إلا ويظهر فيها أهمية علاقته بسعيد الذي فتح كوة في جدار التيار الإسلامي في تونس إذا اكتملت حلقاتها يمكن أن تحصد مصر مكاسب مهمة.
ونسج الرئيس التونسي سعيّد شبكة جيدة من العلاقات مع قوى إقليمية ودولية، لكن تظل مصر هي الدولة التي يمكن التعويل عليها، والأكثر وضوحا في موقفها السياسي من دعم إجراءاته ومن دون تدخل في شؤون بلاده أو وجود أطماع تسعى لتحقيقها.
وأكثر ما يهم الأجندة المصرية الاستفادة من الضربة القاصمة التي تعرضت لها حركة الإخوان في المنطقة، ومحاولة البناء عليها لتطوير العلاقات وتشييد جدران أمنية وسياسية قوية تساعد الرئيس التونسي في الحفاظ على ما اتخذه من قرارات.
لذلك لن يهدأ فصل الوئام بين الرئيسين ولن يمضي دون منغصات يثيرها المتخوفون من تطويرها، حيث روجت جماعة الإخوان لمزاعم حول وجود اختراقات مصرية للأمن التونسي، في محاولة لتخريب العلاقات بين سعيد والسيسي، وهدم ما يتم البناء عليه من تفاهمات قبل أن يشتد عوده، وهو ما يعيه جيدا الجانبان.
وتحاول منظومة التعاون والتنسيق التي جرى تشييدها النأي بالعلاقات عن كوابيس الإخوان وما يمكن أن تفضي إليه من تعكير صفوها، من خلال وضع قواعد راسخة، إذ ترى القاهرة أن هناك فرصة استراتيجية ثمينة لتأسيس علاقات طويلة مع الدولة التونسية تسد فراغا عانت منه طويلا، كما أن الرئيس سعيد بحاجة إلى سند يمثل رصيدا استراتيجيا لدولته في ظل تقلبات تعيشها المنطقة وتبدل سريع في التحالفات.