"جدّات".. حبكة سينمائية مكتملة تدعو إلى عودة الترابط الأسري
بعيدا عن قصص أفلام الحركة والجريمة الجذابة لجماهير السينما العريضة، قدم الكاتب والمخرج الأميركي ستيفن تشبوسكي والكاتبة ليز ماكي فيلم “جدّات” (Noonas) المستوحى من حدث حقيقي تمت معالجته ببراعة ليكون حكاية دافئة ومليئة بالمشاعر الإنسانية التي تتعاطى مع قيم عظيمة غابت عن عالم اليوم الحافل بصراعات متباينة، وتعظيم للمنافع الفردية بلا نظر لأيّ اعتبارات إنسانية.
يأتي فيلم “جدّات” ليمنح المشاهد حبكة فنية مليئة بالمشاعر الإنسانية الفياضة، ومطلقا دعوة قوية للعودة إلى الترابط الأسري والاجتماعي الغائبين، على غرار ما أحدثه فيلم “قصة حب” (Love story) المأخوذ عن رواية للأديب الأميركي أريك سيغال وأطلقته هوليوود عام 1970 للمخرج آرثر هيلر، والنجمين آلى ماكغرو ورايان أونيل، ليحدث دويا في السينما العالمية، التي غرقت وقتها في أفلام العنف وقيم الغرب الأميركي.
وطرح الفيلم الذي حصد العشرات من الجوائز السينمائية العالمية وحقق إيرادات كاسحة، قصة حب شديدة الرومانسية بين شاب وفتاة يكتشف بمرور الأحداث إصابتها بمرض السرطان، لكنه يقرر دعمها بحب شديد حتى آخر لحظة.
وضعتنا قصة الفيلم مباشرة في قلب التواصل المفقود في معظم مشاهد حياتنا المعاصرة المعقدة. تواصل بين جيل الأجداد والجدّات، وجيل الآباء والأمهات، وصولا إلى جيل الأبناء، من خلال شخصية جو سكارفيلا الأميركي من أصول إيطالية، ولعب دوره ببراعة النجم الأميركي فينيس فون، الذي يفقد والدته التي أحبها كثيرا ويرث ثروة كبيرة منها، تتمثل في مبلغ التأمين الكبير على حياة الأم. يرفض جو نصائح أصدقائه والمحيطين به باستخدام مبلغ التأمين في سداد ديونه واستثمار الباقي منه في مجال العقارات الذي يعمل به، ويصمم على خوض مغامرة تجارية تحمل مخاطر جسيمة.
متأثرا برحيل والدته، يعود الرجل الأربعيني إلى ذكريات طفولته السعيدة مع أمه وجدته وقضاء أوقات لطيفة وهو يتابعهن بشغف أثناء صناعتهن برفقة صديقات أخريات أطعمة إيطالية مختلفة بنكهات مميزة، لتتولد لديه فكرة حملت أكثر من هدف، تتمثل في تكريم والدته عبر إنشاء مطعم لمأكولات إيطالية كانت تعشق صناعتها، ودعوة صديقات والدته اللائي كن يشاهدنه طفلا أثناء تحضيرهن الطعام، فضلا عن نشر إعلان لدعوة الجدّات الراغبات في المشاركة بأسرارهن في الطهي للمشاركة في المطعم نظير أجور مجزية.
يختار جو مطعما مغلقا منذ سنوات في جزيرة ستاتن الصغيرة بنيويورك ليشتريه ويجدده ويستعين برؤى الجدّات وصديقات والدته في صناعة ديكورات غير تقليدية للتأكيد على بصمة المطعم الخاصة بتقديمه ذلك الطعام الشهي الذي كانت تقدمه الأمهات والجدات، ليصبح المطعم في النهاية ليس مجرد مطعم للمأكولات بل دعوة لعودة العلاقات الاجتماعية المفقودة بين الأجيال من خلال نوستالجيا (الحنين) أطعمة الجدّات التي تحمل زخم الماضي، فما بالنا وقد صار الماضي واقعا عززه إطلاق المطعم لدعوة تلاقي الأجيال للقاء داخل المطعم بفكرته الفريدة، واختار اسم “مطعم جدّات” (Noonas restaurant).
يحجم الجمهور في البداية عن ارتياد المطعم لتأثره بالحرب التي أطلقها أصحاب المطاعم المحلية بجزيرة ستاتن ودعايتهم السلبية عن المطعم ليدعو جو نقادا أميركيين كبارا في مجال المطاعم لتذوق أطعمة مطعم الجدّات، ويفاجأون بروعة مذاق الأطعمة ويكتبون مقالات تشيد بها ومذاقها الذي يعيد إلى الأذهان روعة أطعمة الجدّات والأمهات، ما يسهم في تدفق الرواد ليصير المطعم بمرور الوقت مكانا لعودة العلاقات الأسرية المفقودة ويدعو فيه الأبناء من الأجيال الشابة آباءهم وأجدادهم للتلاقي فيه ومحاولة بناء جسور جديدة في العلاقات الأسرية.
تضمّن العمل مشاهد وثائقية حالية للمطعم الحقيقي المستوحاة منه فكرة العمل وهو مطعم “إينوتيكا ماريا” ( Enoteca Maria)، مع الإشارة إلى أن المطعم مفتوح منذ 15 عامًا بجزيرة ستاتن وتديره الآن جدات من جميع أنحاء العالم. رغم متانة الطرح والبناء الدرامي الجيد، وقع العمل في فخ الملل، حيث جاءت بعض المشاهد حوارية بحتة ومغرقة في تفاصيل ذكريات الجدّات والأمهات المشرفات على المطعم أثناء تبادلهن لهذه الذكريات، والتي كان من الممكن المرور عليها سريعا حتى يواصل المشاهد شغفه بمتابعة العمل بطرحه المتميز وكفاح صاحب المطعم جو برفقة طاقم الجدّات لتحدي صعاب نجاح المطعم، في الوقت الذي اعتمد فيه صناع العمل على براعة أداء النجمين فينس فون وسوزان ساراندون مع تمتين هذا الأداء المتميز بإضافة النجمة العالمية تاليا شاير، بكل ما تملكه من قدرات كبيرة في الأداء الدرامي لتجسد دور إحدى الجدات.
إضافة إلى الفيلم الرائع فنيا، هناك قصة حب جاءت كصرخة لاستعادة الرومانسية المفقودة في الولايات المتحدة أوائل سبعينات القرن الماضي، ما يقود للحديث عن الأعمال السينمائية المهمة التي أطلقتها هوليوود من أجل العودة إلى الدفء الأسري وترميم العلاقات الاجتماعية المهترئة نتيجة إيقاع الحياة السريع والبحث عن المنفعة والمادة، وإلى تحفة هوليوود الخالدة فيلم “كرامر ضد كرامر” الذي صدر بتوقيع مخرجه العالمي روبرت بينتون ونجميه الكبيرين داستين هوفمان وميريل ستريب.
أحدث الفيلم ضجة كبيرة في حينه، وكان مجالا لمناقشات في العديد من الأوساط السينمائية والنقدية، وحقق نجاحا جماهيريا كاسحا وقت عرضه عام 1979، وحصد خمسة جوائز أوسكار، علاوة على ترشيحات أخرى. ويركز العمل الكبير على حجر أساس بناء الأسرة عبر الضياع الذي يعانيه طفل صغير عقب انفصال والديه وقيام والده الذي جسده داستين هوفمان بلعب دور الأب والأم للتكفل بأعباء الطفل وحده، ما أثّر على مهنته وتسريحه منها واضطراره إلى اللجوء إلى أعمال أخرى تمكنه من محاولة التوازن بين رعاية طفله وعمله.
نجح فيلم “جدّات” في أن يحتل موقعا متقدما في سرديات السينما العالمية الاجتماعية المليئة بالمشاعر الإنسانية الفياضة، فالعمل الذي أطلقته منصة نتفليكس مؤخرا صنّف على أنه ثاني أعلى مشاهدة بعد تصدره قائمة الأفلام الأعلى مشاهدة في الأيام الأولى من عرضه، كما أشاد بطرحه المتميز عدد كبير من النقاد والمبدعين والمشاهدين، وبدا واحة سينمائية رومانسية اجتماعية جديدة يستظل بها المشاهدون من مختلف أنحاء العالم ويلتقطون أنفاسهم قليلا من قصص العنف الدموية والجريمة والرعب والحركة (الأكشن) مترامية الأطراف في عالم الفن السابع.
إنه واحة تدعو الجميع إلى عودة الحب والعلاقات الاجتماعية الدافئة بوصفها طوق الإنقاذ الحقيقي لأرواح الناس التائهة في عالم معقد من اللهاث وراء القيم البراغماتية البحتة.