ليو الرابع عشر أول بابا أميركي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية
أصبح روبرت فرنسيس بريفوست، وهو مبشر قضى حياته الكنسية ككاهن في بيرو وقاد مكتب تعيين الأساقفة ذا النفوذ في الفاتيكان عشية أمس الخميس، أول بابا أميركي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الممتد منذ 2000 عام. واختار بريفوست، العضو الـ69 في رهبانية القديس أوغسطين، اسم ليو الرابع عشر. وظهر من شرفة كنيسة القديس بطرس وهو يرتدي الرداء الأحمر التقليدي للبابوية، وهو الرداء الذي تجنبه البابا فرنسيس لدى انتخابه في 2013.
وكان بريفوست مرشحا بارزا لولا جنسيته. وكان هناك حظر منذ أمد بعيد على تولي أميركي منصب البابا، نظرا إلى القوة الجيوسياسية التي تحظى بها الولايات المتحدة في المجال الدنيوي بالفعل. لكن بريفوست الذي ينحدر من شيكاغو، كان مؤهلا أيضا لأنه مواطن بيروفي وأقام في بيرو لسنوات، كمبشر أولا ثم كرئيس أساقفة. وكان البابا فرنسيس يتابع بريفوست بوضوح وكان يراه كوريث له في نواح عديدة.
وعلى الفور هنأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب البابا الجديد. وكتب ترامب في منشور على منصته للتواصل الاجتماعي، “تروث سوشيال”، “إنه لشرف كبير أن ندرك أنه أول بابا أميركي.. يا لها من إثارة، ويا له من شرف عظيم لبلدنا”. وقال ترامب إنه يتطلع إلى لقاء البابا. وغالبا ما كان ترامب في خلاف مع سلف ليو، البابا فرنسيس، بشأن سياسته المتشددة تجاه المهاجرين.
ويقول باحثون ومحللون إن التحديات التي تنتظر البابا الجديد كثيرة، من تراجع شعبية الكنيسة في أوروبا إلى مالية الفاتيكان مرورا بالتصدّي لظاهرة التحرّش بالأطفال في الكنيسة وتراجع الدعوات الكنسية. ولا بدّ له من أن يعيد اللحمة إلى التيّارات المختلفة في المؤسسة الكنسية. وخلال القدّاس الإلهي الذي أقيم الأربعاء قبل انطلاق أعمال المجمع المغلق، قال عميد سن مجمع الكرادلة الإيطالي جوفاني باتيتسا ري في عظته إن البابا المقبل أمام “منعطف معقّد في التاريخ،” داعيا إلى “المحافظة على وحدة الكنيسة” و”التخلّي عن الاعتبارات الشخصية” في “هذا الخيار الذي يكتسي أهمّية قصوى.”
◙ التحديات التي تنتظر البابا الجديد كثيرة بدءا من تراجع شعبية الكنيسة في أوروبا إلى مالية الفاتيكان مرورا بالتصدّي لظاهرة التحرّش بالأطفال في الكنيسة
وتوفي البابا فرنسيس في 21 أبريل الماضي بعد أن رأس الكنيسة الكاثوليكية، التي يبلغ عدد أتباعها 1.4 مليار شخص، لمدة 12 عاما. وسعى فرانسيس خلال فترة ولايته إلى فتح هذه المؤسسة الراسخة أمام العالم الحديث وقام بمجموعة من الإصلاحات وسمح بمناقشة قضايا خلافية، مثل السماح للنساء بأن يصبحن كهنة وتحسين دمج الكاثوليك من مجتمع الميم.
وحين اعتلى البابا فرنسيس السدة البابوية عام 2013، بعد الاستقالة التاريخية لسلفه بنديكتوس السادس عشر، ظنّ كثيرون أن الكنيسة مقبلة على فترة استقرار، لكن الواقع أثبت عكس ذلك، فمنذ ذلك الحين، شهدت الكنيسة موجات متلاحقة من الإصلاحات، طالت آليات الإدارة، والتعامل مع قضايا الانتهاكات، وملفات الزواج والطلاق، إلى جانب الشؤون المالية للفاتيكان. وقد قاد فرنسيس هذه التحولات بحيوية لافتة، عبر زيارات متواصلة لدول عدة، غير أن وفاته فتحت الباب أمام مراجعة عميقة للإرث الذي خلّفه، وفتحت المجال أمام الكرادلة للبحث عن شخصية تقود الكنيسة في مرحلة ما بعد الإصلاحات.
ويتصدّر ملف الانتهاكات الجنسية داخل الكنيسة الكاثوليكية جدول أولويات البابا الجديد، استمرارًا للمسار الذي دشنه البابا الراحل، وسعى البابا فرنسيس إلى معالجته بإجراءات إصلاحية وخطابات صادمة أحيانًا. إلا أن الواقع على الأرض لا يزال يعكس فجوة كبيرة بين الطموحات والتنفيذ؛ إذ لا يكاد يمر أسبوع من دون ظهور قضية جديدة في إحدى بقاع العالم، ما يؤكد أن طريق التطهير والشفافية لا تزال طويلة.
وبينما شرعت دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا في مسارات الاعتراف والتعويض، لا تزال كنائس في أفريقيا وآسيا تتعامل مع الموضوع كـ”تابو” اجتماعي وديني، في ظل غياب البنية القانونية أو المجتمعية لفتح هذا الجرح علنًا. وإحدى الإشكاليات الأكثر إلحاحًا هي الانخفاض الحاد في أعداد المنتمين إلى الكنيسة في أوروبا وأميركا الشمالية. فظاهرة العلمنة، المصحوبة بأزمات ثقة عميقة، أسفرت عن تراجع غير مسبوق في الحضور الكنسي والدعوات الكهنوتية.
ففي ألمانيا مثلًا، غادر أكثر من نصف مليون شخص الكنيسة عام 2022، وهي حصيلة تعكس أزمة انتماء حقيقية. أما في فرنسا، فارتفاع عدد المعموديات بين البالغين لا يعوّض النزيف المتواصل في عدد المؤمنين المسجّلين. ويفرض هذا الواقع على البابا الجديد وكرادلة الكنيسة تحديًا إستراتيجيًا: إعادة جاذبية الرسالة الكاثوليكية في مجتمعات تُعيد صياغة علاقتها مع الدين، لا من منطلق رفض، بل من منطلق إعادة تعريف.
وتشهد الكنيسة اليوم تصدعًا داخليًا متزايدًا، يتراوح بين جناحين: المحافظون الداعون للتمسك بالطقوس التقليدية والمواقف الأخلاقية الصارمة؛ والليبراليون الذين يطالبون بتحديث الخطاب وفتح النقاش حول قضايا مثل قبول المثليين، ودور المرأة، والتفاعل مع العالم الحديث. وقد برز هذا الانقسام في الجدل حول القداس بحسب الطقس القديم، وفي الطريقة التي يتم بها التعامل مع المجتمعات المختلفة ثقافيًا ودينيًا.
وسيكون على البابا الجديد إدارة هذا التوتر المتنامي، لا فقط بوصفه انقسامًا أخلاقيًا، بل بوصفه تهديدًا لوحدة الكنيسة العالمية. وتُظهر البيانات والتحليلات أن مركز الثقل الديمغرافي للكنيسة الكاثوليكية يتجه جنوبًا. فمن المتوقع أن يعيش بحلول 2050 حوالي 78 في المئة من المسيحيين في دول الجنوب العالمي، وبشكل خاص في أفريقيا التي يُتوقع أن تضم 40 في المئة من الكاثوليك في العالم.
◙ كان هناك حظر منذ أمد بعيد على تولي أميركي منصب البابا، نظرا إلى القوة الجيوسياسية التي تحظى بها الولايات المتحدة في المجال الدنيوي
ويطرح هذا التحول الديموغرافي تحديًا بنيويًا أمام الفاتيكان: كيف يمكن لكنيسة لطالما حكمتها البنى الثقافية والسياسية لأوروبا أن تُعيد تموضعها لتصبح حقًا كنيسة عالمية، تمثّل الجنوب كما الشمال؟ صحيح أن البابا فرنسيس جاء من أميركا اللاتينية، لكنه – كما يلاحظ مراقبون – بقي أسير الإرث الكاثوليكي الأوروبي.
ولا يمثل انتخاب بابا جديد فقط لحظة لاهوتية أو كنسية، بل لحظة سياسية – ثقافية يتعين فيها على الكنيسة مواجهة سؤال الهوية: هل هي كنيسة روما… أم كنيسة العالم؟ ورغم أنها كيان روحي وديني، فإن الفاتيكان يتمتع بوضع فريد على الساحة الدولية كـ”دولة ذات سيادة” تحت اسم الكرسي الرسولي. ومنذ اتفاقيات “لاتيران” عام 1929 مع الحكومة الإيطالية، أُقر استقلال الفاتيكان، ما منحه اعترافًا دبلوماسيًا كاملاً، وحق التمثيل في الأمم المتحدة كمراقب دائم.
لكن هذا الوضع الخاص جعل الكنيسة تعمل ضمن توازن دقيق بين سلطتها المعنوية ومحدودية أدواتها التنفيذية ما يجعل الأزمات – مثل ملف الانتهاكات أو الانقسامات – أكثر حساسية، إذ تُدار ضمن بنية دبلوماسية وأخلاقية معقدة لا تملك أدوات قهرية لحل النزاعات أو فرض قراراتها. والكنيسة الكاثوليكية هي من أكثر المؤسسات المركزية في العالم، حيث يتبع أكثر من 1.4 مليار كاثوليكي سلطة البابا، عبر تسلسل هرمي معقّد يبدأ من الأسقف الأبرشي وينتهي بالكرسي الرسولي في روما. إلا أن هذه المركزية كثيرًا ما تعرّضت لانتقادات، خاصة في ما يتعلق بـبطء الاستجابة للأزمات (مثل قضايا الاعتداءات) وتضارب السياسات الكنسية محليًا ودوليًا إضافة إلى تهميش الكنائس “غير الأوروبية” في صناعة القرار.
وقد حاول البابا فرنسيس مواجهة هذا الخلل من خلال الدفع نحو “لامركزية محدودة”، لكن العملية ما زالت في بداياتها، ما يعني أن البابا الجديد سيرث إدارة بيروقراطية تحتاج إلى إصلاحات هيكلية عميقة.
ورغم وحدة العقيدة الكاثوليكية، فإن الكنيسة تضم أطيافًا ثقافية متعددة يصعب توحيدها تحت رؤية واحدة. فالكاثوليكية في أميركا اللاتينية تختلف من حيث الطابع الشعبي والاجتماعي عن مثيلتها في أوروبا، بينما تميل الكنائس الأفريقية إلى نموذج أكثر تقليدية وروحانية، في حين تتخذ الكنائس الآسيوية، خصوصًا في الصين والهند، موقفًا براغماتيًا حذرًا بسبب البيئة السياسية والدينية المعقدة. وهذا التعدد يجعل من إدارة الكنيسة مهمة أشبه بإدارة “أمم متحدة دينية”، ويطرح على البابا الجديد تحديًا يتمثل في كيفية الحفاظ على الوحدة العقائدية مع احترام الخصوصيات المحلية.