عقد من التدخل العسكري السعودي في اليمن: ماذا تحقق؟
قبل عقدٍ من الزمن أعلنت المملكة العربية السعودية بدء تدخلها العسكري في اليمن، ووعدت بقيادة تحالف يضم أكثر من عشر دول -على الرغم من أن بعضها أنهى مشاركته لاحقًا- ضد جماعة الحوثي المسلحة، المعروفة رسميًا باسم أنصارالله، التي استولت على السلطة من الرئيس عبدربه منصور هادي.
وبدعمٍ من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية أخرى بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية المشتركة، بدأ التحالف السعودي في 26 مارس 2015 غارات جوية على المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، ما أشعل فتيل صراعٍ استمر سنوات.
وتحولت توقعات الرياض الأولية بعملية عسكرية سريعة تستغرق ستة أسابيع لهزْم الحوثيين إلى تورطٍ طويل الأمد ومكلف، اختبر قدرة المملكة العربية السعودية على فرض إرادتها على جارتها وإجبار الحوثيين على التخلي عن سيطرتهم على جزء كبير من اليمن.
بداية التدخل
تغير مبرر السعودية للتدخل بمرور الوقت مع تطور الصراع. وفي البداية صُوِّر التدخل على أنه استجابة مباشرة للنداء العاجل الذي وجهه الرئيس هادي إلى دول الخليج وحلفائها الدوليين، والذي نقله في رسالة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مارس 2015.
ودعا هادي الدول إلى “تقديم الدعم الفوري بكافة أشكاله واتخاذ التدابير اللازمة، بما في ذلك التدخل العسكري، لحماية اليمن وشعبه من عدوان الحوثيين المستمر.”
وفي البداية تصور السعوديون التدخل كجهد حاسم لإعادة الحكومة الشرعية في اليمن إلى العاصمة صنعاء. ومع تطور الوضع أعادت السعودية صياغة هدفها على أنه استعادة العملية السياسية في اليمن في إطار مبادرة مجلس التعاون الخليجي، التي سهّلت في الفترة 2011 – 2012 نقل السلطة من الرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى هادي.
ومع ذلك، فإن الأساس المنطقي وراء تدخل السعودية نابع من تصورها للحوثيين كوكيل لإيران على حدود المملكة. وخشيت الرياض أن يشكل نفوذ إيران من خلال الحوثيين تهديدًا مباشرًا لهيمنة المملكة ومصالحها الإقليمية.
بعد مرور عدة سنوات على التدخل شهد نهج السعودية في اليمن تحولاً كبيراً نتيجة مجموعة من الأحداث المحورية، بما في ذلك الاتفاقية التي توسطت فيها الصين
ورأت المملكة في استيلاء الحوثيين على صنعاء تحديًا لاستقرار اليمن، بل عاملًا مُحتملًا لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط الأوسع.
وفي هذا السياق صاغت المملكة العربية السعودية تدخلها العسكري كرد فعل ضروري لحماية أمنها ونفوذها الإقليمي.
ولكن بينما اعتقدت السعودية أن إيران هي القوة الرئيسية وراء استيلاء الحوثيين على السلطة، كان مدى النفوذ الإيراني على الجماعة آنذاك، في الواقع، محدودًا نسبيًا.
ولئن اعتمد الحوثيون على الدعم العسكري واللوجستي الإيراني، لاسيما في مجال الأسلحة والاستشارات الإستراتيجية، فإنهم لم يكونوا تحت سيطرة إيران الكاملة. فرغم قدرة إيران على تقديم المشورة للحوثيين في المسائل الإستراتيجية والسياسية، إلا أنها افتقرت إلى النفوذ الكافي لتوجيههم. بل إن عوامل محلية، مثل التنافسات القبلية طويلة الأمد في اليمن ومعارضة الحوثيين الطويلة للحكومة المركزية وسعيهم إلى تعزيز نفوذهم السياسي، كانت أكثر تأثيرًا في تشكيل سلوك الحوثيين.
ولعبت تحالفات الحوثيين مع الرئيس السابق صالح وبعض فصائل الجيش اليمني دورًا حاسمًا في صعود الجماعة. بمعنى آخر كان نفوذ إيران كبيرًا، لكنه لم يكن شاملًا، إذ كانت للحوثيين أهدافهم السياسية والإستراتيجية الخاصة.
ومع ذلك، أصرت الرياض على تصوير الحوثيين كأداة للتوسع الإيراني. ومن المفارقات أن عداء السعودية المطول ربما عزز نفوذ إيران في نهاية المطاف، إذ دفع جماعة الحوثي المسلحة إلى تعميق اعتمادها على الدعم العسكري واللوجستي الإيراني.
النجاحات والإخفاقات
ترى أفراح ناصر، وهي زميلة غير مقيمة في المركز العربي لواشنطن دي سي، أن التدخل الذي تقوده السعودية حقق نجاحات محدودة، لكنه اتسم إلى حد كبير بإخفاقات إستراتيجية وعملياتية.
ومن الإنجازات البارزة وقف التوسع الإقليمي لتحالف الحوثي – صالح، وخاصة تقدمه نحو جنوب اليمن. وبحلول منتصف عام 2015 تمكنت القوات المدعومة من التحالف من استعادة عدن والمناطق المحيطة بها، ما أدى إلى تراجع مكاسب الحوثيين في الجنوب.
وبالإضافة إلى ذلك نجح التحالف عام 2016 في استعادة المكلا في الشرق بعد أن صارت تحت سيطرة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية لما يقرب من عام.
ومع ذلك فشلت الحملة العسكرية السعودية إلى حد كبير في تحقيق أهدافها المعلنة، بل أثارت انتقادات عالمية بسبب الخسائر الفادحة التي أوقعتها في أرواح المدنيين.
وتسببت الحرب في مقتل أكثر من 375000 شخص (معظمهم بسبب الجوع الناتج عن الحصار البحري الذي تقوده السعودية) وتدمير البنية التحتية لليمن على نطاق واسع، ما أدى إلى احتداد الأزمة الإنسانية في البلاد.
في استيلاء الحوثيين على صنعاء تحديًا لاستقرار اليمن، بل عاملًا مُحتملًا لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط الأوس
وفي غضون ذلك حافظت حركة الحوثيين على قبضتها على المرتفعات الشمالية في اليمن، موطن غالبية سكان البلاد.
وفي الوقت نفسه تكافح الحكومة الحالية المعترف بها دوليًا، والتي تعمل تحت إشراف المجلس الرئاسي برئاسة محمد العليمي، لتأكيد سلطتها بسبب مزيج من الانقسامات الداخلية والتدخلات الإقليمية وظهور جماعات مسلحة مستقلة، وتعمل بشكل أساسي من عاصمتها المؤقتة في الجنوب، عدن، بينما يقضي أعضاؤها معظم وقتهم في الرياض، ما يؤكد نقاط الضعف السياسية والعسكرية للمجلس. كما أضعف تباين الأجندات بين الحلفاء التحالفَ المناهضَ للحوثيين أيضًا.
وسواء أكان التدخل بقيادة السعودية مبررًا أم لا، فإن أغلب التقييمات تشير إلى أنه يفتقر إلى أساس مشروع، حيث نشأ الصراع في اليمن كصراع داخلي كان ينبغي أن يحسمه اليمنيون أنفسهم.
وأدى التدخل إلى تدويل الحرب، وأدخل ديناميكيات القوة والتبعيات الخارجية إلى اليمن، الأمر الذي قوّض آفاق التوصل إلى تسوية سياسية مستدامة.
ومن خلال توسيع الصراع وإطالته أدى التدخل أيضا إلى تآكل سيادة اليمن الضعيفة أصلًا وتعميق الانقسامات الداخلية، ما عقّد جهود استعادة اللحمة الوطنية.
وعلاوة على ذلك أضعف فشل التدخل الموقف الإستراتيجي للمملكة العربية السعودية وقوّى الحوثيين، ما سمح لهم بترسيخ سيطرتهم على شمال اليمن، وتعزيز قدراتهم العسكرية وشرعيتهم السياسية. وقد أتاحت الحملة العسكرية المطولة للجماعة ترسيخ سلطتها، وهو ما زاد من صعوبة التوصل إلى حل تفاوضي.
إعادة تقييم
بعد مرور عدة سنوات على التدخل شهد نهج السعودية في اليمن تحولاً كبيراً نتيجة مجموعة من الأحداث المحورية، بما في ذلك الاتفاقية التي توسطت فيها الصين عام 2023 بين السعودية وإيران لاستعادة العلاقات الدبلوماسية، وحرب إسرائيل على غزة.
ولم يكن أمام الرياض خيار سوى إعادة النظر في نهجها تجاه الصراع اليمني، منتقلة من التدخل العسكري إلى الدبلوماسية. وكان إدراكها أن سياستها الخارجية العدوانية تُهدد بتنفير حلفائها الأساسيين، وخاصة الولايات المتحدة التي كانت تتعرض لضغوط سياسية محلية متزايدة للحد من مبيعات الأسلحة للمملكة، هو ما دفعها إلى هذا التغيير.
وفي هذا السياق ركزت خطوة الرياض على الحفاظ على علاقاتها الجيوسياسية الحيوية، بدلاً من إعادة النظر في طموحاتها الإقليمية.
وأعلن اتفاق مارس 2023 بين السعودية وإيران، بوساطة صينية، عن تحول الرياض الإستراتيجي من المواجهة مع الجمهورية الإسلامية إلى الاحتواء.
وفي هذا الاتفاق وافقت إيران على تقليص دعمها للحوثيين بشكل كبير. وتطورت أولويات الرياض، حيث بدأت التكاليف السياسية للحرب تفوق فوائدها الإستراتيجية، ما دفعها إلى التحول نحو خفض التصعيد.
وأدى ذلك إلى زيارة غير مسبوقة في أبريل 2023 لسفير المملكة إلى صنعاء، محمد آل جابر -الذي كان قد استُدعي من العاصمة اليمنية قبل سنوات- حيث التقى بقادة الحوثيين.
ومع تركيز القيادة السعودية الآن على التحول الاقتصادي المحلي في إطار رؤية 2030، تجاوزت الكلفة السياسية للحرب مكاسبها الإستراتيجية المحتملة، ما دفع الرياض إلى البحث عن مخرج بدلاً من تحقيق نصر عسكري.
ودفعت حرب غزة التي اندلعت في أكتوبر 2023 السعودية إلى إعادة تقييم حساباتها في اليمن، وهو ما أجبر الرياض على تجنب أي إجراء قد يثير ردود فعل انتقامية ضد الحوثيين.
ويؤكد عدم مشاركة المملكة العربية السعودية في عملية “حارس الرخاء” -الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة لحماية طرق التجارة البحرية في جنوب البحر الأحمر من هجمات الحوثيين- إلى جانب ترددها في توجيه ضربات عسكرية أميركية بريطانية لمواقع الحوثيين، على تحول أوسع نطاقًا.
ولم تعد الرياض ترى في اليمن ساحة معركة إستراتيجية للمواجهة. وبدلاً من ذلك أصبح شاغلها الرئيسي الآن هو خفض التصعيد، خوفًا من أن يؤدي تجدد الأعمال العدائية إلى إضعاف تقدمها الدبلوماسي مع إيران وتعريض طموحاتها المحلية والإقليمية للخطر.
وعلى مدى العقد الماضي أصبح المشهد السياسي في اليمن أكثر تعقيدًا، واتسم بالتشرذم والجمود السياسي المستمر وتفاقم الأزمة الإنسانية.
تجاوز الكلفة السياسية للحرب مكاسبها الإستراتيجية المحتملة دفع الرياض إلى البحث عن مخرج بدلا من تحقيق نصر عسكري
وبعد أن كان الحوثيون في البداية طرفًا محليًا في صراعات السلطة الداخلية في اليمن، أصبحوا طرفًا إقليميًا، ويتجلى ذلك في ضرباتهم التي تستهدف سفن الشحن في البحر الأحمر والسفن الحربية الأميركية والأهداف الإسرائيلية تضامنًا مع غزة. واليوم مع تراجع النفوذ الإيراني الإقليمي، يُنوّع الحوثيون تحالفاتهم، ويسعون للحصول على الدعم من العراق وروسيا، وحتى حركة الشباب في الصومال.
وأدى التقارب السعودي – الإيراني إلى تقليص الرقابة الإيرانية على الحوثيين، وقاد الجماعة إلى أن تصبح أكثر استقلالية، مع قدرات عسكرية مستقلة.
ويشير تقرير صادر عن لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية باليمن عام 2024 إلى أن الحوثيين يسعون لبناء شبكة مباشرة من الحلفاء، متجاوزين دور إيران التقليدي كوسيط. وقد ساعدت مرونة السعودية المتزايدة في تعاملاتها مع الحوثيين، مدفوعة بهذا التقارب، الحوثيين على ترسيخ سلطتهم.
ومع تعزيز الحوثيين لموقفهم، أثرت الديناميكيات المتغيرة على الأرض في الإستراتيجيات الإقليمية والدولية الأوسع.
وتُشير الغارات الجوية الأميركية الأخيرة في اليمن إلى إستراتيجية عسكرية أميركية أكثر عدوانية، إذ تستهدف قادة الحوثيين مباشرةً بدلًا من الاقتصار على أصولهم العسكرية.
وعلاوةً على ذلك، وعلى عكس الضغط الذي مارسته إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن على إيران لوقف دعمها للحوثيين، ربط الرئيس دونالد ترامب إيران علنًا ومباشرة بأفعال الحوثيين في اليمن، مُصرّحًا بأن “كل طلقة يُطلقها الحوثيون ستُعتبر… طلقة أطلقتها أسلحة وقيادة إيران، وستُحاسب إيران.” وقد يُشكّل هذا الإسناد ذريعة إستراتيجيةً للتصعيد الأميركي ضد طهران.
ومع ذلك يقلل الموقع العسكري الراسخ للحوثيين، بالإضافة إلى جغرافيا اليمن الصعبة، من احتمالات تحقيق حملة ترامب الجديدة لنتيجة عسكرية حاسمة.
ولمواجهة التهديد الحوثي المتزايد بأقصى فاعلية لا بد من اتباع نهج شامل. إن تعزيز الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وتوحيد فصائلها أمرٌ بالغ الأهمية لتقديم بديل عملي عن السيطرة الحوثية الحصرية. ومن خلال ترسيخ السلطة السياسية ومعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع، يمكن لليمن أن يُشكل جبهة موحدة ويحدّ من نفوذ الحوثيين.