فيلم "رامبو" ينطق بصرخة المهمشين في مصر ضد الظلم
يمكن الولوج إلى الأعمال السينمائية من مداخل عدة، للنظر إليها وتحليلها من زوايا مختلفة، كالقصة والإخراج والتمثيل وغيرها من العناصر المعروفة في أي عمل فني، لكن الحديث عن الفيلم المصري “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” المعروض حاليا في دور السينما يقودنا إلى إعلاء شأن عنصر آخر نرى أنه الأبرز لمشاهدة العمل من خلاله والاستمتاع به.
ليس من السهل في العقد الثالث من الألفية الجديدة أن يختار صناع السينما تقديم عمل فني تقوم فكرته الأساسية على محاولة إنقاذ حياة كلب، في ظل عدم تطور الوعي بين الشعوب العربية بشكل كاف حول الاهتمام بالحيوانات والرفق بها، فضلا عن أن الإنسان ذاته في منطقتنا كثيرا ما يجد نفسه عاجزا عن الحصول على حقوقه في الحياة، فأنى له أن يهتم بحقوق أو حياة كلب؟
ما وراء الحكاية
فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”، بطولة عصام عمر، ركين سعد، سما إبراهيم، أحمد بهاء، حسن العدل، أحمد السلكاوي وخالد جواد، مع ظهور يسرا اللوزي وبسمة ضيفي شرف، والفيلم من تأليف محمد الحسيني، وإخراج خالد منصور، وإنتاج رشا حسني ومحمد حفظي.
حسن، الشاب الثلاثيني الذي أدى دوره النجم الشاب عصام عمر، هو عامل أمن بمقر راق لمهندسي العمارة بحي الزمالك في القاهرة. ندرك من المَشهد الأول في الفيلم عمق محبته لكلبه الذي يحمل اسم رامبو. وندرك أيضا فقر وبساطة الحياة التي يحياها حسن مع والدته، الفنانة سما إبراهيم، والكلب رامبو، في أحد الأحياء الشعبية، لكنها برغم ذلك حياة لا تفارقها ابتسامات الرضا والطيبة.
عصام عمر اختار أن تأتي بطولته السينمائية الأولى في فيلم يشبهه قريب من أفكاره فهو فنان له مشروعه
يبدأ الصراع عندما نعلم أن الأسطى كارم صاحب البيت الذي يعيش فيه حسن وأمه بالإيجار يريد إخراجهما منه ليوسع ورشته، مقابل مبلغ مالي زهيد لا يمكن أن يوفر لهما بديلا، ويؤكد لهما أن هذا سيحدث في كل الأحوال سواء قررا اللجوء إلى القضاء أم لا، بل إنهما قد يفقدان عرضه المالي إن لم يلتزما بالمهلة المحددة.
يبدو حسن أو “الشاطر حسن” كما كان يسميه والده الحالم الذي ذهب ولم يعد منذ زمن، ضعيفا، فاقدا الحيلة، فهو من أولئك المهمشين المسالمين أمام سطوة وسلطة وجبروت كارم الذي يظهر في أول مشهد له وهو يغسل يديه بالدم. يحمل زي العمل الذي يرتديه حسن كلمتين باللغة الإنجليزية؛ كلمة “القاهرة” على يسار صدره ناحية القلب، وهو اسم المقر الذي يعمل به، وكلمة “أمن” على الظهر لكن مع تمزق حرفين من حروف الكلمة الإنجليزية، ما يشير إلى اهتراء الزي وصاحبه العاجز عن تأمين أحد، بما في ذلك تأمين نفسه.
مبروك السلام
قدم الممثل أحمد بهاء شخصية كارم بصدق وأداء طبيعي، ما صدَّر للمشاهد فضلا عن البطل حسن حالة الرعب من بطش هذا المتسلط العشوائي المفعم بالقبح، الأقرب إلى بلطجي. كل شيء يشير إلى قرب مواجهة يتفاداها حسن ووالدته، لكنهما لا يعرفان إلى أين يذهبان إن تركا بيتهما، وبالفعل يتحرش كارم بحسن. يُمعن في إذلاله ويفتعل معه مشاجرة يتدخل على إثرها كلبه رامبو، الذي ينهش كارم في منطقة حساسة، ما يفقده هيبته في المنطقة، ويطعن في رجولته وقدرته على الخصوبة والبقاء.
وقعت الواقعة. اشتعل الصراع. لكن المُشاهد لا يمكنه أن يرى الصراع محصورا فحسب داخل الحدود الظاهرة للقصة، وهي إصرار كارم على تسليم الكلب ليقتص منه في مقابل رفض حسن القاطع ومحاولته تهريب صديقه رامبو والبحث عن منفذ لخروجه.
الصراع يرمز إلى ما هو أبعد وأعمق، ليس على مستوى واحد إنما مستويات عدة أحدها يظهر بوضوح خلال مشهد لقاء حسن بعمه، الفنان حسن العدل، الذي ينصحه بتسليم الكلب، بينما تظهر في الخلفية صورة معلقة على الحائط للصفحة الأولى من صحيفة مصرية يعلوها مانشيت “مبروك السلام” أعلى صورة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، عقب توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية.
يتماس هذا المستوى مع مستوى آخر، يرتبط بحياة المهمشين في مصر، والإنسان عموما، ومعاناته إثر فقدان العدل والأمل، وتحطم الأحلام في غياب الحصن والسند، ما يبدو من خلال مشهد جلسة التحكيم العرفية في المقهى التي يتصدرها أحد كبار المنطقة سنًّا، الذي ينحاز بوضوح إلى كارم في الحكم الذي يصدره، ويطلب من حسن إحضار الكلب إليه.
ما العمل؟ يجوب حسن الأصقاع باحثا عن منفذ لخروج “السيد رامبو” من المأزق إنقاذا لحياته، فيلتقي خلال ذلك بحبيبته السابقة أسماء، الفنانة ركين سعد، التي حاولت بإخلاص مساعدته في سعيه لأجل قضيته، برغم أنها في السابق اضطرت إلى تركه لتتم خطبتها لرجل آخر، فهي كذلك ضعيفة مهمشة، وتقيم في سكن مشترك مع أخريات.
يقع حسن في فخ يدبره له زميله في العمل، ليفاجأ بكارم وقد أطلق الرصاص على رامبو من وراء قضبان تبدو كالسجن. لا يموت رامبو، إنما يصاب في عينه إصابة بالغة، ما يعيد إلى الأذهان وقائع إصابات أعين متظاهرين على أيدي قناصة في ثورة 25 يناير 2011 في مصر. لا نستطيع منع أنفسنا من إدراك هذا التماهي مع الواقع، عبر الربط والتحليل وفقا لهذا البعد، لاسيما في ظل كون حياة البطل حسن في مجملها بحثا عن الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، وهي شعارات الثورة التي ما زال الناس في مصر يبحثون عنها.
يدرك حسن أنه لا منفذ لصديقه الكلب، الذي تتماهى حياته معه، سوى في الخروج من البلد، فيوافق على منحه لسيدة تقيم مع زوجها في كندا، الفنانة يسرا اللوزي، التي وعدته بأن يتواصل معه دوما ويراه عبر الفيديو، فضلا عن لقائه خلال فترة زيارتها لمصر لمدة أسبوع كل سنة.
كم كان مشهد الوداع مؤثرا. كي يحافظ رامبو على حياته بكرامة فإن الخروج هو الحل، ليصبح عندئذ هو “السيد رامبو” بحق، ويصير بعدها حسن الذي ظنه الجميع ضعيفا أو مسالما هو “الشاطر حسن”، ويبدأ التفكير في الانتقام.
يلجأ إلى بيت من بيوت الله. يدخل إلى مسجد ويتوضأ. يصلي ثم يجلس مسندا ظهره إلى عامود تعلوه كلمتا “المعز المذل”. وتنتابه حالة عصبية يحاول على إثرها تمزيق باقي حروف كلمة أمن “سيكيوريتي” المدونة على زيه. قبل مشهد الانتقام من كارم، لا بد هنا أن نتذكر كلمات حسن لوالدته في بداية الفيلم عن تفكيره للاحتفال بعيد ميلاده معها عبر صنع قالب من الكيك ومشاهدة فيلم “الغول”.
الفيلم الشهير، من بطولة عادل إمام وفريد شوقي، تأليف الكاتب وحيد حامد، إخراج سمير سيف. وفي نهاية الفيلم؛ إنتاج عام 1983، يقرر الصحافي عادل عيسى الانتقام من رجل الأعمال فهمي الكاشف رمز الفساد عبر ضربه بساطور فوق رأسه ليلقى مصرعه.
ويقرر حسن مواجهة كارم، رمز الفساد الجديد، بقبحه وعشوائيته، للانتقام منه، إلا أنه لا يصل إلى حد قتله، يحرق له سيارته، ويشتبك معه في مشاجرة يهين فيها كرامته، ثم يتوقف عند هذا الحد، استجابة لنصيحة القاضي المنحاز في جلسة التحكيم العرفية بالمقهى، الذي يطلب منه بعد أن صار في موقع الأقوى: “كفاية لحد كده”.
كيف تكون المقاومة
شارك الفيلم في مهرجانات دولية وعربية عدة ونال جوائز. وقد يبدو للكثيرين بأنه لا يشبه المرحلة، فقد جاء مختلفا عما يقدمه الفن حاليا، عبر طبيعة الحكاية، وطريقة تناولها سينمائيا، بالرمزية، والإضاءة الخافتة، والطول النسبي لفترات الصمت، ليعيد العمل إحياء ذكرى أفلام “الواقعية الجديدة” داخلنا، تلك المدرسة التي لمعت في ثمانينات القرن الماضي بأفلام كبار المخرجين، مثل عاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبدالسيد ومحمد خان وآخرين. وجاء “رامبو” تجريبا لواقعية أخرى حديثة في 2025.
والفنان عصام عمر، نجم شاب يشبه شباب المصريين، ملامحه كملامحهم، يتكلم بطريقتهم، يبتسم ويتألم ويلقي النكات أيضا كشخص طبيعي، حقيقي، واحد من أبناء البلد، غير مفتعل. وقد لعب البطولة الأولى له في مسلسل “بالطو” عام 2023 وحقق نجاحا كبيرا، ثم مسلسل “مسار إجباري” في رمضان الماضي، واختار أن تأتي بطولته السينمائية الأولى في فيلم يشبهه، قريب من أفكاره، فهو فنان له مشروعه، الذي لا شك أنه سيتطور بالاستمرار والتجربة.
الفيلم يبدو للكثيرين لا يشبه المرحلة، فقد جاء مختلفا عما يقدمه الفن حاليا، عبر طبيعة الحكاية، وطريقة تناولها سينمائيا
وللتذكير فإن الكاتب الكبير وحيد حامد كان قد سئل عن النهاية الدامية لفيلم “الغول” التي تماهت في تفاصيلها مع حادث اغتيال الرئيس السادات قبل عامين وقتها في 1981، وعما يقصده بها. وقال إنه لم يكن يدعو إلى العنف أو الانتقام، إنما إلى عدم القيام بسياسات ظالمة تستهتر بآدمية البشر قد تدفع الطرف الآخر إلى القيام بحماقة.
وفي فيلم “رامبو” لم يجد البطل منفذا للخروج من المأزق، إلا بالسفر، للكلب المتماهي مع حياة الإنسان، أو بالمواجهة مع الظالم، فالمقاومة ضد مغتصب الأرض أو الحياة أو الحلم واجبة، لكن إلى أي حد تكون المقاومة؟ وكيف؟ بالعقل والتدبير والحكمة أم المواجهة المنفعلة غير المحسوبة؟
أسئلة يثيرها الفيلم وتبقى احتمالات الإجابات مفتوحة، ما عبر عنه المشهد الأخير، عندما جلس البطل وأمه معا، بعد أن فقدا بيتهما، أعلى صخرة فوق جبل، ينظران بأسى إلى القاهرة، حولهما كلاب ضالة بائسة، دون أن يعرف أحد ما يمكن أن يحدث في الغد.