الفنانة التشكيلية العربية تستعمل الفراغ لاقتحام عوالم التجريب البصري
في سنة 1958 قدّم التشكيلي إيف كلاين أول معرض فني خُصص لمفهوم الفراغ باعتباره عنصرا تشكيليا له خصوصياته الفهمية في بناء العمل والأداء على مستوى التجريد والتعبير والسريالية، واكتشاف أبعاده الأوسع في الحركة والعمق والتحكم في الأحجام باعتبارات فكرية وذهنية ارتكزت على دلالاته الجمالية وتساؤلاته العميقة في التفاعل المفاهيمي، في معرضه “الفراغ” فضاء من الحواس يقول كلاين عن تجربته “أنا فنان أرسم المساحات لست فنانا تجريديا ولكني على العكس أجيد فهم مجاز الواقع”.
حرّر كلاين تساؤلاته في الفراغ من خلال الكتلة والمساحات والألوان وعالمه الأزرق الذي عبّر به عن الفراغ الواسع والمدى المحيّر ببرود لم يقف عند مرحلة واحدة ولا شغب أساسي محدود ليعبّر عن الجوهر والعمق كأساس مفاهيمي وجودي إنساني، جعل من تجريبه ركيزة فعل في تحريض الكتل على تقبّل المفهوم من خلال الفراغ، وبالتالي فإن أغلب التجارب المعاصرة قاست الفراغ على احتمالات تلك المعاني والبحث فيها وركّزت على اللون وكتلته لتصل إلى خلق تماس دلالي كان له بعده الرمزي في التعبير، وهو ما اتخذته المرأة التشكيلية في تصوراتها المفاهيمية لخلق وسائط دلالية استطاعت أن تشغلها وأن تثير فيها الفكرة المخفية التي وصلت فيها أنوثتها التعبيرية ورمزياتها وقضياها، ما ساعدها على خلق وجه تشابه بين فكرة الفراغ وفلسفتها البصرية.
أنوثة الرمز والعلامة
الفراغ في تجربة المرأة التشكيلية العربية هو بمثابة التحدي الذي وقف بين الموضع أو حالة المزاج والموقف وبين اللون وتلك التوافقات، حيث تُصوّر المفهوم الذي قد يبدو فارغا للمتلقي، بيد أنها تشكّل تداخلاته بالمشاحنات والصراعات والتوتر والانفعال.
فالمرأة العربية وهي تصارع الفراغ وتنشغل به ومعه تراقص إيقاعه بشجن وأريحية لتلامس الأرض وتتمحور فيها هي نفسها كعنصر خلق وتكوين كرحم للمعرفة والبحث، فهي تنساب مع فراغها في ألوانها الرمزية التي ميّزتها، مثلا في الفراغ وجدلياته مع اللون الأحمر والأصفر الترابي والأخضر والأزرق تجلت عميقة باعتبارها شكّلت مفاتيح فكرة دلالاتها الرمزية ربطت بين الحب والرومنسية والحلم والأرض والتراب والخصب والطفولة والأرض والقلق والحيرة والأمل والحرية والارتياح، كل مفهوم يرتبط بالتوافق المتناقض في البعث والانجاز، وبالتالي فإن كل استدراج للأبعاد والظلال بدوره ينفذ نحو العمق ما يفسّر رمزيا ويقرأ تشكيليا كما يستنطق أحلامها وطموحاتها التي ترغب في التحرر من الفكرة الإيروتيكية للجسد ومن عقد التحريم والقمع والدونية والعنف والتسيير فهي تتمرد بقيمها الباحثة على الكلاسيكية والتقاليد والتبعية.
كثيرا ما كانت علاقة مفهوم الأنوثة في التعبير الفني التشكيلي ككل هي علاقة الجسد وتفاصيله غير أن تناول المرأة لفكرة الأنوثة في فنها بشكل عام جمع الجسد والشكل والملامح والروح والذهن في عناصر رمزية وإيحائية تتحمّل تأويلاتها، وهو ما فعّل عندها في توظيفها للفراغ فكرة الحضور والإلغاء والغياب، وبالتالي فالتعبير التشكيلي حمّل مفاهيمه للفراغ حتى لو لم تركّز على ذلك من خلال الأسلوب الإيهامي في عملية تفعيل وفق عنصر التكوين الأصلي عند الانطلاق في مساحة المنجز الفني، فكأنها تقول في الفراغ يكمن حضور الجسد وفي الكتلة ينسجم المفهوم.
التجارب المعاصرة تقيس الفراغ على احتمالات المعاني والبحث فيها مركزة على اللون وكتلته لتصل إلى تماس دلالي
فعناصر الرمز في الفراغ المعبّر عن الأنوثة تكمن في اعتماد اللون مثل التركيز على اللون الأحمر وتدرجاته ومزجه بالأبعاد وشحنه بالأسود مثلا أو التلطيخات البيضاء وبالخطوط في تشكل الفراغات تجريديا وفي الكتل والملامح والجسد بأحجامه والطبيعة وفي البناءات والهندسة في تفاصيل المرأة وعالمها في مراوغات الأسلوب وتحويل المشهد نحو السريالية والتعبيرية التجريدية، ليكون مستوى الأحجام مع الفراغ حاملا لرؤى الظهور والإخفاء التمويه والتجلي فيما بينها كعناصر الارتكاز على تحديد أحجامها وتفاوتها بنقل حركة التواتر المتوتّرة الهادئة والصاخبة في سجل المواقف والانتماء، أو من خلال الأداء والتركيب.
تجهيز الفراغ في العمل المعاصر مثل ربط العناصر والخامات أو تفكيكها في التركيب الفني للمنجز حيث أن هندسة الشكل مهمة في التوظيف الفني للفكرة وتوافقاتها الحسية وانعكاس الظلال معها وانعكاس المشهد على الصورة وتفاصيلها المعنوية في الفضاء.
الفكرة والطبيعة
تعاملت المرأة بالفراغ مع مفهوم الطبيعة والأرض كمفهوم اتصال وتواصل مجال ومتّسع تتجلى فيه الخطوط والارتكازات مع العناصر والأحجام مع الملامح والكتل، فالخطوط والترابط بينها ومجال النقاط وتكثيفها وحدود البؤر وتوسيعها، خلقت التماس التفعيلي للحركة للدوران لمساحات التواصل، لأن الأرض انطلاقة للتمازج مع الذات والحضور في المساحة كعلاقة اندماج ومزج حركي حيوي تفرضه تناغمات الإيقاع الترتيبي للفكرة، فالأرض عبّرت عنها بالمدى بخلفيات اللون بالإيهام والفوضى في تشكيل الألوان الترابية والحارة والألوان الباردة في سمك الخامة في النحت وتجويفاتها وفي فضاء العرض وحجم الخامات وطرق تجهيزها.
أما معنويا فتجسّد الفراغ في حالة الصفاء بين تجليات الذات وصوفية الروح في خلق خصب وحضور من اللاتكوين إلى التكوين من أساطير البعث إلى الخلق، كلها توازن مع المفهوم الأول وتعرضه في تكوينات الفراغ التبادلي الإيجابي والسلبي، لتثير الفكرة الأساسية للحياة والموت وفي اكتمالاتها تحدّد الفراغ بضبط حضوره أو التضييق عليه كي لا ينفذ حسب الحواس والمزاج والفكرة.
عناوين التحاور الجدلي وفلسفة التعبير البصري صاغتها الفنانة العربية تقنيا لتجسيد الذات التكوينية في اتباع الفراغ كرمزية للمكان والهامش، واشتغلت على الجوانب التقنية للفراغ الإيجابي والسلبي في توظيف الكثافة في اللون وحشد الملامح والكتل والسعي بها لإثبات الحضور والصخب والتحكّم، دون انفصال عن تبعات المكان وتصميم تكويناته الأصلية في رمزية التراث والعادات والتقاليد فبالفراغ تستحضر شحن الذاكرة والحواس للتعبير عن رغبة الانعتاق وقيود الانتماء وفكرة التحرّر من مسميات هويّة الإجبار.
الفنانة العربية باتت تتناول فكرة الأنوثة جامعة بين الجسد والشكل والروح والذهن في عناصر رمزية وإيحائية
الفراغ إذن يوظّف لخلق بؤر نفاذ عميقة ومرجعية ترسخ ترابط التصميم وتوازن تكويناته أو لحظات صمت صاخبة تبحث عن الصور في تكرار اللون أو هندسة العمق بفراغات اللون وتدرج النور والعتمة والاشتغال على الظلال أو في حجم الخامات ومدى تراتبية توظيفها بالنسبة للأعمال المعاصرة.
المجتمع لا ينفصل عن الانتماء ولكنه ينقسم في توظيفاته فهو العادات والتقاليد العقلية والتصادم القيود والضيق، لذلك تعبير الفراغ عنه كمفهوم في العمل كثيرا ما يحدّد في المساحة بالتزاحم اللوني بالكثافة الخطية والظلال والرموز والحرف والصور والملامح اللاواضحة وتركيب اللون عليها، فتراكمات التصادم تستشعر العمق الابتكاري بالتراص في اللون أو الكتل ورفضها الالتحام بتفكّك توظيفي يتفرق ويجتمع والفراغ فيه يكون أوسع في المساحة لإراحة المشهد من التجاذبات.
مواجهة الذكورية
تعبر المرأة عن قضيتها باختلافات بصرية تكمن في المساحة وفي تحديد حجم الفراغ ومداه الفلسفي في التناول، فهي تتصادم معه في اللون وتلتقي بنقيضه في الفراغ، وبالتالي تسمح للحجم والشكل بالنفاذ نحو العقلية، فبين التطرف في اللون والتماسك في الحدة الشكلية تستثير الحالات وتستنطق مشاعرها وتوظّف أحلامها في التعبير.
ولكن المرأة العربية في مساحة الفراغ تعبّر عن النضج المتماسك والتشتت المفتعل لإدراك المفاهيم التي تعبّر عن ذلك التصادم والعنف في الفكرة والعقلية بين تناقضات الحرية والقيود التسيير والتحرر التبعية والانعتاق خصوصا إذا ما عالجتها برمزياتها الواقعة تحت سلطة المحرمات والمقدس في توظيف الهندسة والأشكال والحرف العربي والخامات والدلالات الموظفة في تجهيز الفراغ بالأداء والتصنيف والترتيب.
تحاول الفنانة عبر ذلك كله التعبير عن الواقع من خلال الفراغ، فتستحضر المتضادات في واقعها والتابوهات في التجسيد الإيحائي بتأويلاتها وتتعامل مع الرمز فيها مثلا الأسطورة في الأدب لتحقّق ما تطمح له انطلاقا من ذاتها وما يحاول المجتمع أن يراها فيه، فالفراغ يتيح لها المساحة لتتوازن وتفلت دون مباشرة بحذر يضمن لها الجرأة ويبعدها عن الصدام فهي تجرّد الصورة الصدامية من مخلفات الواقع بالتفاعل الجمالي مع العناصر.