موسم أصيلة يختتم ندواته الكبرى بالبحث عن منظور غائب للعدالة والديمقراطية

وكالة أنباء حضرموت

ناقش عدد من المسؤولين الحكوميين والأكاديميين وشخصيات فكرية من المغرب ودول عربية وأجنبية موضوع قيم العدالة ونظم الديمقراطية، بوصفه العنصر الأهم في كل الأشكال والتصنيفات والمبادئ الأساسية المعلنة التي يجب أن تحققها ممارسة العملية الديمقراطية محليا ودوليا، مُمثلَة في سيادة القانون، وضمان حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والعدالة والمساواة.

الهدف من طرح موضوع “قيم العدالة ونظم الديمقراطية” حسبما أكد محمد بن عيسى الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، في افتتاح الندوة الرابعة والأخيرة ضمن الندوات الكبرى التي احتضنها الموسم الخامس والأربعون لمنتدى أصيلة يومي الجمعة والسبت، هو “تشخيص الاختلال الصارخ بين الحرص على تعزيز قيم العدالة في المجتمعات الغربية كمجتمعات ديمقراطية، وبين المنطق الغربي الذي يقصي منها شعوبا أخرى تقع، سياسيا وحضاريا، خارج المنظومة الغربية”.

اعتبر المشاركون في الندوة الكبرى التي تندرج ضمن الدورة الثامنة والثلاثين لجامعة المعتمد بن عباد المفتوحة، أنه لا يستقيم الحديث عن الديمقراطية كنموذج لصون قيم الحرية والمساواة دون تحقيق العدالة بمفهومها العالمي المبني على الإنصاف والاعتراف بالحقوق والحفاظ على كرامة الإنسان.

هشاشة النظم الديمقراطية

إن مفهوم العدالة واحد لا يتجزأ، حسب سميرة إبراهيم بن رجب، المبعوثة الخاصة للديوان الملكي لمملكة البحرين. وتضيف بن رجب بأنه لا يمكن الحديث عن العدالة في ظل وجود غابة دولية يرتع فيها الأقوياء، ولا يترك للضعيف المجال حتى للتعبير عن الرأي، هناك عدم توازن في الأمن الأممي، ويوجد خلل في عمل المؤسسات الدولية، وأنظمة مالية واقتصادية دولية مجحفة، وخلل في العدالة بشكل كبير، والوضع الدموي الناتج عن الحروب والصراعات ارتفع بمعدلات قياسية، وأصبح العالم يعيش حالة من التخبط والغليان والإحباط.

وتقول المبعوثة الخاصة للديوان الملكي البحريني إنه لا يمكن الحديث عن عدالة كونية عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية ومصالح الدول وتطبيق القانون الدولي والقرارات الأممية أو إدارة المؤسسات الأممية نفسها. وبالتالي يمكن القول إن مبادئ الكونية الإنسانية تبقى أسطورة أو شعارا صعب المنال أمام إطار قانوني وأممي يحكمه الأقوياء، ويفرض على باقي الشعوب والدول النامية.

كفاعل سياسي، فإن هشاشة النظم الديمقراطية أمام انحرافات التسلط والاستبداد، حسب مداخلة وزير العدل المغربي عبداللطيف وهبي، هي التي دفعت المجتمعات الديمقراطية إلى تشييد العديد من المؤسسات التي تهدف إلى وضع حد للسلوك السياسي الديمقراطي حتى لا ينفلت، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الحقوقية والمواثيق الدولية للعدالة كلها وسائل اعتمدتها الثقافة الديمقراطية لكي تحصّن النظم الديمقراطية من الاعتباطية، وتجعل قيم العدالة كمساواة أمام القوانين، والحق في التقاضي والاعتراض، والحرية في التعبير والوعي والتنظيم، والاختلاف في الاختيار والمصلحة قيم تراقب السياسة الديمقراطية وتقوّم اعوجاجها، بل وتغيرها إن اقتضى الأمر ذلك.

وفي مداخلته لاحظ الأستاذ الباحث في الأنثروبولوجيا السياسية، والروائي المغربي محمد المعزوز، حصول إجماع دولي على كون القوانين الدولية أصيبت بسكتة دماغية جعلت العالم في حيرة وتشكك من جدوى حقوق الإنسان ومعاني العدالة وأدوار الدبلوماسية الجديدة، مشددا على أن هذه السكتة “تضعنا أمام إشكالية تحديد أدوات مقاربتها: هل بالمنطق الفكري لما قبل 7 أكتوبر 2023، أم بعدة معرفية ومفاهيمية جديدة تقطع ما كل ما سبق؟”، لأن كل ما حدث اليوم وكل ما ارتبط به كحصيلة في النظام العالمي، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، يتصل أساسا بمظاهر الأزمات كانتشار الأوبئة والحروب وأزمة المناخ، الشيء الذي بشر بتسويق النموذج الأميركي الذي يحاول فرض قيمه كقيم إنسانية، معتبرا أن هذا الفرض “يشرعن للقوة” .

بلورت المجتمعات الديمقراطية العديد من الآليات والإجراءات والمؤسسات التي تنهل مشروعيتها ليس من عالم السياسة، كما يرى عبداللطيف وهبي، بل من عالم الأخلاق والقيم والأعراف الإنسانية، يقول وهبي في مداخلته “صار النضال من أجل تحقيق المثال الديمقراطي في السياسة يستدعي النضال من أجل مثال أخلاقي للعدالة وتارة نجد المثاليين يسيران في نفس الاتجاه، وتارة أخرى نجدهما يتنازعان”.

◄ الديمقراطية السياسية غير كافية لتحقيق أهدافها، وقيم العدالة ضرورية لدعم مسارها للتحقق على أرض الواقع المعيش للأفراد والجماعات

وإذا كان الوزير السابق للعدل ومنسق الندوة، محمد أوجار، قد تحدث بنبرة مشوبة بمرارة مضاعفة حول مآل العدالة الكونية التي ناضل هو وجيله من أجل تبنيها في شموليتها، والتي يراها اليوم عاجزة عن كبح جماح الهمجية التي ينعشها الصمت العربي والتواطؤ الغربي، فقد أكد المعزوز على أن “محتوى العدالة، بعد 7 أكتوبر، نزل من دائرة البديهيات ليلتبس بالديمقراطية ليصبح من المسلمات، ثم لينحدر اليوم إلى دائرة الجدليات”، مسجلا أنه “لأول مرة يصل هذا المفهوم إلى الحضيض الذي يعني التحيز والتموقف المسبق”.

وتعتقد سميرة إبراهيم بن رجب أن الحديث عن مصطلح العدالة، وما ينبثق عنه من مفهومي العدالة الاجتماعية والعدالة الكونية، هو مفهوم تشوبه نفس التعقيدات والاختلافات بين الباحثين والمفكرين والمختصين بسبب حالة عدم الاتفاق البالغ. وحتى في صورة وجود بعض التوافق حول المفهوم العام لمصطلح العدالة الاجتماعية، فإن سرعان ما يعود الاختلاف حول مجالاته ومكوناته باختلاف الدلالات والانتماءات والمعتقدات السياسية والسياقات المستخدمة.

وهكذا يتبين عند وهبي، أن الديمقراطية السياسية غير كافية لتحقيق أهدافها، وأن قيم العدالة ضرورية لدعم مسارها للتحقق على أرض الواقع المعيشي للأفراد والجماعات، فالديمقراطية والعدالة هما سيرورتان متلازمتين لبناء المجتمع الحديث، وأن ما سماه بـ”خطر الانتخابوية” يهدد الديمقراطية لأنه يعتبرها تفويض الشعب للنخبة السياسية لتدبر كل مجالاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لفترة زمنية لا يحق فيها لأيّ كان أن يعارض أو ينتقد، ولهذا فأهمية قيم العدالة أمام هذا الخطر الانتخابوي، حيوية وإستراتيجية.

ويظهر النكوص أو التواطؤ حسب مداخلة المفكر العراقي حسين شعبان “في تجاهل الغرب لقيم العدالة ممثلة في قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل والتغول عليها، نكوص زاد من مرارة تقبّله الصمت العربي على المستويات الرسمية والشعبية، “ما جعل الفرصة سانحة أمام المشككين في هذه القيم وأولها حقوق الإنسان باعتبارها مستوردة ولا تصلح للاستنبات في تربة عربية إسلامية”.

وذهب نبيل بن يعقوب الحمر، مستشار ملك البحرين لشؤون الإعلام، إلى أن هذه القيم والمبادئ المثالية العليا تستخدمها الأنظمة الغربية بناء على مصالحها الإستراتيجية عند التعامل مع قضايا الشعوب، ففي الوقت الذي يتم فيه دعم أنظمة تخدم المصالح الغربية، يتم الضغط على دول أخرى لتغير سياستها واحتوائها، والتدخل في شؤونها الداخلية تحت يافطة هذه المبادئ.

ازدواجية المعايير

في مداخلته في ندوة “قيم العدالة والنظم الديمقراطية”، ركز ميغيل أنخيل موراتينوس، وزير الخارجية الإسباني السابق، على الوضع في فلسطين كانعكاس سلبي لديمقراطية وعدالة دولية غائبة إلى جانب ازدواجية في المعايير التي تحكم رؤية وأحكام الغرب للمجتمعات والدول الأخرى، مشددا على أهمية التحرك دفاعا عن حقوق الإنسان وتقوية مؤسسات الأمم المتحدة ومحاربة الإفلات من العقاب، لافتا إلى أن الديمقراطية، التي تشكل مجموعة الأنظمة والآليات السياسية التي تهدف إلى تحقيق العدالة، تمر اليوم بأزمة على المستوى الدولي، لاسيما على مستوى التمثيلية والمشاركة، داعيا في هذا السياق إلى بناء قيم جديدة للديمقراطية والعدالة والتحرك معا لتطبيق هذه القيم بشكل صحيح.

والازدواجية حسب محمد بن عيسى تعكس مظهرا من مظاهر الانفصام الأخلاقي في مواقف الغرب السياسية إزاء مظالم ومآس وأعمال عدوانية توسعية تقع اليوم أمام أنظار العال، ولعل أبلغ مثال على هذه الازدواجية يقول بن عيسى هو “اصطفاف الغرب ضد الحق الفلسطيني في الوجود، وتبرير الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة”.

فيما ربط عمرو موسى، الأمين العام السابق للجامعة العربية، الوضع بالأراضي الفلسطينية وما تقوم به إسرائيل بازدواجية المعايير لدى الغرب، حيث أن ما توصف بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط تحميها الديمقراطيات العالمية أو التي تدّعي بأنها ديمقراطية تحمي الحقوق وتطالب بالمساواة والعدالة، وهو ما لا يحدث مطلقا وفيه تزوير كبير، مشددا على أن هذه الازدواجية التي تنتهجها الدول الغربية هي المدمر الأساسي لسلطة مجلس الأمن ومصداقيته، وكذلك لميثاق الأمم المتحدة ونصوصه ومبادئه، بل كذلك لمصداقية المؤسسات، وهي أكبر عدوّ للاستقرار العالمي، وللمستقبل العالمي، استقرارا وازدهارا ونماء.

خطورة تبني ازدواجية المعايير من طرف الغرب والنكوص عن القيم الذي بدا واضحا أكثر بعد أحداث طوفان الأقصى والموقف منها، كما يرى الباحث والمفكر العراقي حسين شعبان، تستمد خصوصيتها اليوم من كون هذا النكوص والتراجع عن تبنّي هذه القيم “لم يعد يقتصر على القوى اليمينية العنصرية بل امتد إلى قوى اليسار ورموزه الفكرية في الغرب”، مقدما المثال بالسقطة الأخلاقية للمفكر هابرماس وانحيازه إلى نظرية الدفاع عن النفس الإسرائيلية وشيطنة وتجريم المقاومة الفلسطينية. هذا المأزق الأخلاقي أظهر أن الغرب الذي تخلّى عن قيمه الإنسانية هو نفسه “الغرب الذي كان يضغط على الشعوب المستضعفة باسم الديمقراطية، وهو ما يؤكد أننا اليوم أمام تجذّر قوي، داخله، لمفهوم الدولة العميقة التي يتحكم فيها المجمع الصناعي والحربي”.

‎كما أن التأثيرات السياسية تلعب دورها في شأن الازدواجية في المعايير، كما يعتقد نبيل الحمر، موضحا أن الضغوط السياسية قد تؤثر على استقلالية القضاء، مما يعيق العدالة ويعزز من الازدواجية في تطبيق القوانين، بالتالي فإن الازدواجية في تطبيق قيم العدالة الغربية تجاه القضايا العربية، هي ظاهرة تتجلى في كيفية تعامل الأنظمة الغربية مع الأزمات والصراعات في العالم العربي، إذ تتبنى الأنظمة الغربية معايير مختلفة عندما يتعلق الأمر بقضايا الشعوب، وبالأخص القضايا العربية مقارنة بالقضايا الأخرى، فغالباً ما يتم تجاهل مبادئ حقوق الإنسان في بعض المناطق في الوقت الذي يتم فيه توجيه الانتقادات الحادة إلى الدول العربية.

ومن خلال تشريحه للواقع، أكد المعزوز، أن تسيد الحقيقة العارية التي تمثلها تكنولوجيا الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تم التطبيع مع صور الدم والخراب، حتى أصبحت هذه الوسائل هي النقد الموضوعي لمعنى العدالة، وهو ما يضعنا أمام حقيقة مرعبة تتمثل في كوننا “أمام هدر فاضح لآدمية الإنسان”، لافتا إلى أن خطاب التكنولوجيا اليوم هو الذي كشف المستور وفكك الشرعيات بكل الدلالات التي تحملها، وخلص المعزوز إلى أن هذا الوضع المأزوم كان من خلاصاته تشكل وعي جيلي جديد بـ”اللاعالم”، الذي يقوم على منطق العنف وحده والذي لم يجد الجيل الجديد مهربا منه إلا بالانفصال عنه واللجوء إلى العالم الافتراضي، عالم حين الخروج منه تبدأ فقط دلالة العنف أو انبعاث المقاومة.

ما هو الحل

لتجاوز حالة التنكر لتاريخ طويل من إنجازات الحركة الحقوقية العالمية، دعا حسين شعبان في مداخلته، إلى العمل على المشتركات الإنسانية، والتي أظهرت أنه مقابل التخلي الرسمي للغرب عن هذه القيم، ظهرت نقلة نوعية على مستوى الشارع الغربي الذي قاد حملة تضامنية واسعة مع الحق الفلسطيني وصلت إلى الجامعات الأميركية، مشددا على ضرورة “إعادة الاعتبار للقانون الدولي الإنساني” الذي ينتهك اليوم دون رد فعل يذكر.

وإذا كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان مرتبطتان معا بشكل عميق فهما يحتاجان إلى دعم بواسطة العدالة، بالنسبة إلى وزير التعليم الشيلي السابق سيرخيو بيطار مشددا على ضرورة تعزيز بناء المؤسسات الديمقراطية وتقويتها تحترم كرامة كل البشر، وهذا يتطلب نظاما قضائيا متينا وجودة النظام التمثيلي لإرساء تلك الديمقراطية وخلق ثقة المواطن في مؤسسات بلده، وعلى المستوى الدولي لا بد من إصلاح مجلس الأمن وتغيير نظام الفيتو المعمول به والذي يتناقض مع قيم العدالة والديمقراطية.

فيما تساءلت سميرة بن رجب أنه أمام هذا الوضع القائم هل يمكن توفير العدالة على المستوى الفردي – المجتمعي أو الإقليمي دون وجود قانون دولي عادل يعطي لجميع الدول والشعوب فرصا متساوية ولو نسبيا؟ لربما تكون العدالة الكونية المزعومة ضمن مفهوم الديمقراطية الليبرالية حكرا على شعوب بعض الدول الغربية التي تتبنى هذا المفهوم وبشكل نسبي نظرا لفشل النظام الليبرالي الرأسمالي في ضمان ممارسة ديمقراطية حقيقية لشعوبه. في المقابل لا يمكن الحديث عن عدالة كونية عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية ومصالح الدول وتطبيق القانون الدولي والقرارات الأممية أو إدارة المؤسسات الأممية نفسها.

‎من جهته شدد نبيل الحمر على أن معالجة كل هذه التناقضات تتطلب شجاعة سياسية وإرادة حقيقية لإعادة النظر في السياسات والممارسات، التي قد تؤدي إلى تفشي الظلم والإحساس بالغبن، والذي قد يؤدي بدوره إلى العنف، مؤكدا أنه فقط ومن خلال تعزيز الشفافية والعدالة، يمكن للعالم أن يتجه نحو مستقبل أكثر إنصافًا للجميع، وبأن العمل نحو تعزيز العدالة والحرية وحقوق الإنسان هو رحلة مستمرة، تتطلب التعاون بين الأفراد والمجتمعات والدول، ومن المهم دعم تلك الجهود وعدم التقليل من شأن الإنجازات التي تحققت.