أولوية الاستقرار الداخلي تؤجل عرض مشاريع قوانين أمام البرلمان المصري
حمل موقف الحكومة المصرية بسحب العديد من مشروعات قوانين معروضة على مجلس النواب عليها تحفظات حقوقية وشعبية، مخاوف سياسية من عواقب المصادقة على تشريعات يمكن أن تتسبب في جدل أمام تصاعد وتيرة التحديات الداخلية والإقليمية بما يفرض أن تكون الأولوية لتثبيت الأمن والاستقرار.
وأعلن رئيس مجلس النواب حنفي جبالي عن قيام مجلس الوزراء بسحب سبعة عشر مشروع قانون دفعة واحدة، دون أن يذكر الأسباب، في ما كشفت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في البرلمان عن توجه الحكومة لإعادة النظر في تلك القوانين، في ظل تغيرات طرأت بمصر، والحاجة إلى إعداد تشريعات يكون عليها توافق.
ومن بين التشريعات التي تراجعت الحكومة عن مناقشة البرلمان لها، مشاريع قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين والمسيحيين، والمهن الطبية، ومياه الشرب، وأحكام الولاية على المال في مسائل الأحوال الشخصية، ونقابة الفلاحين، والحجز الإداري، والعقوبات، وقوانين تتعلق بفرض رسوم على خدمات بقطاعات جماهيرية.
وكان القانون الأكثر إثارة للجدل، ويحمل تبعات سياسية ودينية، مرتبطا بالأحوال الشخصية، حيث فسرت اللجنة التشريعية تراجع الحكومة بوجود العديد من المواد التي لا تتناسب مع التغيرات الاجتماعية الحالية، وهناك توجه نحو إعادة تقديم مشروع قانون جديد يتماشى مع متطلبات المجتمع المصري.
ويفترض أن ذلك التشريع يحظى بدعم غير محدود من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وكلّف الحكومة بسرعة الانتهاء منه، على أن يخصص قانونا للفصل في المسائل الشخصية للمسيحيين، لأول مرة في تاريخ البلاد، لكن توجه النظام قوبل بردة فعل عنيفة من فئات مجتمعية ورجال دين وعناصر محسوبة على الإخوان والسلفيين.
وتعتقد دوائر سياسية أن الحكومة لا ترغب في المجازفة مع الشارع والإصرار على مناقشة قوانين تكون لها تبعات سياسية خطيرة، في توقيت حرج، داخليا وإقليميا، ومن الحنكة أن تتريث وتعالج بعض التصورات التي عليها تحفظات شعبية وحقوقية، قبل أن تجد نفسها في مواجهة غير محسوبة العواقب، ولا تستطيع لملمة الأمور مرة أخرى.
ويبدو أن الحكومة اقتنعت بتلك الرؤية، لأنها لا تريد تمرير تشريعات ملغومة بالتوازي مع تذمر المواطنين من سوء الأوضاع المعيشية، وما يثيره ذلك من مخاوف من ارتفاع منسوب الغضب بينهم بشكل قد يحدث صداما مباشرا معها، خاصة إذا ارتبط الأمر بتشريعات تلامس الدين أو تفرض المزيد من الرسوم والضرائب والأعباء على الناس.
وتخشى الحكومة المصرية من توظيف تيارات متطرفة مشروعات قوانين الأسرة، للمسلمين والمسيحيين، واستثمار الاحتقان الاقتصادي لدفع الشارع نحو التمرد على رؤية الحكومة تجاه القوانين المطروحة، لاسيما وأنها لم تعقد حولها حوارات مجتمعية أو تليّن مواقف الشريحة الرافضة لها بالقدر الذي يمنع التذمر ضدها.
وتدرك دوائر قريبة من السلطة أن الفترة المقبلة ستشهد خلافات حادة داخل المجلس، أو بينه وبين جهات حقوقية وأخرى نقابية وحزبية، حول قانون الإجراءات الجنائية المرتبط بالحبس الاحتياطي وإجراءات التقاضي، وقد يكون من التهور أن تفتح الحكومة على نفسها جبهات كثيرة في توقيت واحد حول قوانين ملتهبة.
كما أن الصدام مع الأزهر حول تشريعات الأحوال الشخصية يبدو قادما لا محالة، وإن سحبت الحكومة مشروع القانون، لكن من الواضح أن هناك رغبة عند السلطة في تجييش الرأي العام خلفها أولا، قبل الدخول في مواجهة متوقعة مع التشدد الذي تدعمه أصوات وتيارات متطرفة فكريا تجاهد لحشد الناس ضد ذلك القانون تحديدا.
وتتفهم الحكومة حجم الجدل المتوقع بشأن وجود تشريع خاص بالمسلمين وآخر للأقباط، ليصبح لكليهما قانون يحكم علاقاتهما الأسرية، وذلك ليس بالأمر السهل على المستوى السياسي، لأن المجتمع تحكمه العاطفة الدينية، وبالتالي كان من الضروري أن تتحرك بخطوات بطيئة وتعيد النظر في القانونين، لتكون مناقشتهما بأقل الخسائر.
وترفض الحكومة أن تدخل في صدام محتدم مع بعض النقابات المهنية في ما يرتبط بمشروع قانون اتحاد نقابات المهنة الطبية، بما يصنع معارضة سياسية بعيدة عن القوى المدنية التي اختفى دورها تقريبا، بينما يقود الخلاف مع نقابات مهنية لها تأثير وجماهيرية إلى أزمة سياسية قد تثير منغصات للسلطة في توقيت حرج.
وسبق أن أربك توحد نقابات مهنية ضد مشروع قانون الإجراءات الجنائية الحكومة المصرية، وحرمها من تحقيق مكاسب سياسية وحقوقية، ما اضطر البرلمان إلى إعادة النظر في مشروع القانون والسماح بمناقشة اعتراضات النقابات لترضيتها ولو بحذف مواد وتعديل أخرى، يفترض أن توافقت عليها غالبية الأحزاب، لكنها مرفوضة نقابيا.
◙ الحكومة المصرية لم يكن أمامها من خيار سوى تجميد تلك القوانين طالما أن الرأي العام يعيش مرحلة لا تحتمل التهور التشريعي
ويعد قرار الحكومة بسحب مشروعات قوانين كانت ستفرض رسوما جديدة خطوة تعبر عن مخاوف قادمة من الشارع، لأن الناس يعيشون حالة تذمر غير مسبوقة، والتوجه نحو إقرار رسوم جديدة حاليا توجه مستفز للشريحة السكانية الأكبر، لاسيما ما يتعلق برسوم خدمات أو ضرائب، والتراجع المؤقت عن هذا التوجه خطوة إيجابية.
ولم يكن أمام الحكومة خيار سوى تجميد مناقشة تلك القوانين، طالما أن الرأي العام يعيش مرحلة لا تحتمل المزيد من التهور التشريعي، وهناك شريحة ليست بالقليلة أصبحت ترفض اللعب على وتر صبر الناس وهم الذين يتحملون الكثير من المتاعب من أجل استمرار الاستقرار في بلادهم، ويفترض أن يكافئوا على ذلك، وليس العكس.
وقال أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس جمال زهران إن الوضع السياسي والاجتماعي لا يحتمل تشريعات ملتهبة، والمفترض أن تكون الأولوية للاستماع لنبض الشارع إذا كانت هناك رؤية للحفاظ على الاستقرار وتجنب المزيد من الاحتقان، ويجب أن تتحرك الحكومة بحسابات دقيقة وتقيس رد فعل الشارع قبل أيّ خطوة.
وأوضح لـ”العرب” أن الحكومة أصبحت في حاجة لمراجعة تصوراتها التشريعية أمام تشعب التحديات الداخلية والخارجية، لأنها قد تجد نفسها في مواجهة مع الناس، والمهم أن تقتنع بأن المصريين لا يمانعون مطلقا أن يتحملوا من أجل نهضة بلادهم، لكن هناك توقيتات سياسية تحتاج إلى المزيد من العقلانية وتجنب الخشونة التشريعية.
وبعيدا عن قناعات الحكومة، من الواضح أن السلطة لديها قناعة بضرورة غلق المنافذ التي يتسلل منها جدل له تداعيات سياسية، وهي نقطة يراها معارضون تُحسب للنظام، في ظل تحديات داخلية وخارجية لا تتحمل حدوث صدام مع النقابات والمعارضة والشارع، بما يصب في صالح قوى مناوئة توظف الخلاف لتحقيق مصالح مشبوهة.