فن..
تراجع صناعة السينما يزعج الحكومة المصرية وسط طفرة إنتاجية عربية
وضع وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو يده على إحدى أبرز مشكلات القوى الناعمة، ممثلة في تراجع صناعة السينما. وعبرت تصريحات اعترف فيها بأنها “ليست في أفضل أحوالها” عن أن الحكومة منزعجة من التراجع وعدم القدرة على إحداث تغيير يواكب الطفرة العربية على مستوى الإنتاج السينمائي، وتواجدها بشكل أكبر على الساحة الدولية عبر جوائز تحققها في بعض المهرجانات.
وقال هنو “إن صناعة السينما ليست في أفضل حالاتها خاصة على صعيد الكتابة، ما أوجد صعوبة في بعض السنوات في إيجاد فيلم واحد لترشيحه للمنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم دولي”.
وأشار إلى أن جمال الأفلام المصرية في حقبتي الخمسينات والستينات يكمن في أن من كتبوها قامات أدبية وفكرية، أما الآن فلدينا أزمة كبيرة في الورق، وأضاف “أنا مشاهد جيد للسينما وقارئ جيد للنقد السينمائي، لكن الأفلام المنتجة مؤخرا لا تصلح.. أحيانا أفتح التلفزيون وأرى أفلاما ليست لها حبكة على الإطلاق”.
وحظيت انتقادات الوزير بترحيب واسع، لأن الأصوات التي تحدثت السنوات الماضية عن وجود مشكلات في الصناعة لم يكن هناك تفاعل رسمي معها، وظلت أسيرة رؤى يتم التعبير عنها في بعض الندوات والمقالات الصحفية والبرامج التلفزيونية على مضض، دون أن تصل إلى رؤية يمكن السير عليها لتطويرها، ولذلك بدا حديث هنو بنفس اللغة يشي بإمكانية وجود إطار مؤسس يستوعب أفكار تطوير الصناعة.
ولم يعد مقبولاً الاعتماد على الإنتاج الخاص الذي يركز على البعد التجاري، لأن ترك الصناعة لسوق العرض والطلب لن يأتي في صالح السينما المصرية، إذ أن الانفتاح على إنتاجات عربية استفادت من القوى الناعمة المصرية ووظفتها وحققت بها نجاحات مهمة، تطلب التدخل لإيجاد صيغة تُحدث توازنا بين جودة الإنتاج المحلي والدخول في شراكات إنتاجية عربية.
ولمست تصريحات وزير الثقافة مشكلة الكتابة التي هي أساس العمل الفني، غير أنها تتضمن عناصر فرعية مهمة، فرقابة المصنفات الفنية على النصوص المكتوبة تساهم في تصاعد أزمة الكتابة، كما أن الإجراءات الإدارية المرتبطة بالتفاصيل الخاصة بالحصول على إجازة السيناريو في حال مضى عام على تقديمه إلى الجهات المختصة دون إنتاجه واضطرار الكتاب إلى الحصول على تراخيص جديدة تضاعف الأزمة.
ويتفق البعض من النقاد على أن أزمة الكتابة لا تنفصل عن عوامل أخرى تُلقي بظلالها على أزمة صناعة السينما، لأن استسلام المؤلفين لما يمكن تسميته بـ”المناطق الدافئة” التي تضمن عدم الاعتراض على ما يقدمونه من قصص وسيناريوهات يقود إلى تدني جودة الأفلام، ومن ثم بدأ عزوف عدة قطاعات عن السينما.
كما أن المخاوف العديدة من تحقيق خسائر إنتاجية جراء عزوف شريحة كبيرة من المواطنين عن السينما والاتجاه نحو مخاطبة أذواق الجمهور العربي على حساب المصري ترتب عليها البحث فقط عن تحقيق الأرباح بعيدا عن القيمة الفنية.
وتشير إحصاءات غرفة صناعة السينما المصرية إلى أن عدد الأفلام الروائية المنتجة عام 2023 وصل إلى 67 فيلما، مقارنة بـ51 عملا في العام السابق له، لكن النقاد يقولون إن أغلب الإنتاج يندرج تحت مسمى “أفلام تجارية” تهدف إلى تحقيق أكبر عائدات من شباك التذاكر والقليل منها شارك في مهرجانات دولية مرموقة.
وقالت الناقدة الفنية فايزة هنداوي إن “وزير الثقافة الجديد تحدث بجرأة عن مشكلات صناعة السينما، وهو أمر جيد للغاية، لكنه بحاجة إلى أن يتنقل من التصريح إلى التنفيذ عبر الاستعانة بشخصيات على دراية بمشكلات السينما ولديها حلول قدمتها من قبل ولم يتم الأخذ بها”.
وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن “مشكلة السينما تتجاوز النص المكتوب، وتتعلق بأزمات اختيار السيناريوهات. والشباب لديهم أفكار يجدون صعوبة في تسويقها وتحويلها إلى أعمال فنية، كما أن كبار المبدعين المصريين لديهم كتابات مهمة لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ. والمؤلف عاطف بشاي توفي قبل أيام وفي حوزته أعمال جادة كتبها، كذلك الوضع بالنسبة إلى المخرج داوود عبدالسيد، حيث يجد هؤلاء صعوبة في إقناع المنتجين بأعمالهم”.
ولفت وزير الثقافة المصري إلى أنه يعمل على تأسيس قطاع كامل خاص بالسينما داخل وزارته مهمته النهوض بالصناعة وإفراز عناصر جديدة في تخصصات الكتابة والإخراج والموسيقى التصويرية، وهو يريد وضع بنية مؤسسية تستمر لأجيال، لأن النهج الفردي في إحراز طفرة سينمائية فشل، فأي طفرة فردية تموت بموت صاحبها.
وذهبت هنداوي إلى التأكيد على أن “الحديث عن إنشاء قطاع السينما جرى طرحه منذ سنوات ولم ير النور، وهناك مسؤولون كانت لديهم الرغبة في ذلك ولم تتوافر الميزانيات والإمكانيات المادية واللوجستية لتحقيق أهدافهم، والقدرة على التنفيذ هي الفيصل الآن، وعلى الوزير إقناع الجهات العليا بأهمية ما يسعى لتحقيقه”.
وشددت في حديثها لـ”العرب” على أن “مصر أكثر قدرة على تقديم أعمال إبداعية ناجحة بفعل الكوادر البشرية الوفيرة، فقط بحاجة إلى توظيفها بشكل جيد، ويصعب الاعتراض على حركة النهضة العربية الحالية في الإنتاج السينمائي، لكن على الدولة المصرية الحفاظ على خصوصية قوتها الناعمة والاستفادة منها بما يخدمها ثقافيا”
صناعة السينما تواجه معوقات كتكاليف تصاريح التصوير وارتفاع قيمة الضرائب المفروضة على دور العرض، والتي تراجع عددها بصورة كبيرة
وتواجه صناعة السينما معوقات تتمثل في تكاليف تصاريح التصوير وارتفاع قيمة الضرائب المفروضة على دور العرض، والتي تراجع عددها بصورة كبيرة، إلى جانب عدم تأهيل الكثير من الكوادر الموجودة، والحاجة إلى توفير المزيد من المعدات والتقنيات الحديثة.
ورأى المخرج أمير رمسيس في تصريحات وزير الثقافة قيمة إيجابية، خاصة حديثه عن إنشاء قطاع للسينما، والذي أدى إلى وجود نوع واحد من الألوان الفنية يسيطر على الإنتاج الحالي (الأفلام التجارية)، وأن التنوع في الأعمال بحاجة إلى مساندة من أجهزة الدولة مثلما هو الوضع في فرنسا التي مازالت تقدم الدعم للعديد من أفلامها، وأن الهدف لا يتمثل فقط في تطوير الصناعة، وإنما يشمل الارتقاء بالذوق الفني.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن “أحلام المبدعين تصل إلى أهمية إلغاء هيئة المصنفات الفنية التي تقف عقبة أمام الكثير من الإبداعات، فهناك أفلام كان يمكن تقديمها وتحقق نجاحات، سيطرت على كتابها مخاوف من الأزمات الرقابية، والنتيجة التوقف عن استكمال الكتابة أو انتشار الرقابة الذاتية التي تقود إلى ظهور أعمال ليست على المستوى المطلوب”.
وأشار إلى أن إدراك الحكومة لخطورة سحب الريادة من تحت أقدام الفن المصري يجعلها تنتبه الآن إلى أهمية دخولها على خط الإنتاج السينمائي، وأن ذلك لا يخصم من الإنتاج العربي، لكنه يؤشر على أن السينما المصرية تستفيد من هذا التطور.
ولفت إلى أن تحويل التصريحات إلى قرارات يتطلب تعاون المؤسسات الأهلية المعنية بصناعة السينما مع وزارة الثقافة، وتكاتف شركات الإنتاج لإحداث التطور المطلوب، وسوف يكون من المستحيل أن يقود الجهد الحكومي وحده إلى تقدم ملموس.
وأسست مصر عام 2016 الشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والسينمائية، ومن ضمن اختصاصاتها إدارة واستثمار أصول السينما التابعة للدولة، لكن وزير الثقافة أحمد هنو قال إن الشركة لم تحقق النتائج المرجوة على مدى السنوات الماضية، وتراكمت عليها الديون، وأصبحت تحتاج إلى إعادة الهيكلة.