الشهر الثامن لرحيله.. الشيخ "عبدالحميد العبادي" حبيب الشعب يرحل وسند الأيتام يترجل

محمد مرشد عقابي

بكته العيون، وحزنت لرحيله القلوب، وجزع لموته المحبون، وغصت لوفاته المفاجئة النفوس، واضطرب لسماع الخبر المعوزون وذووا الحاجات المتعففون، وخرج الفقراء والمعدمون من ثكناتهم يتساءلون، وفي مدن الحواشب وبلداتها على فراقه يتحسرون، واستيقظ الكل يتصلون ويتأكدون، وعقدت الصدمة ألسن إخوانه المحبين وأصدقائه المقربين، وكلهم قد أصابهم النبأ بالصدمة، ونزل بهم الخبر كالصاعقة، وقد شاهده بعضهم قبل يوم من وفاته على قدميه يمشي، وبهمة يهرول، وبأمل يسعى، فلا شيء يقلقه، ولا مرض يقعده، ولا شكوى تيأسه، وقد أعد برنامجه اليومي كما اعتاد، وأرجأ بعض مهامه حتى يعود من عمل فحوص طبية روتينية في عدن، فقد كان عفيا قادرا، ذا همة عالية مقداماً، سليما معافى لا يشكو، وصاحب عزم لا يلين، ويقين لا يضعف.

 

إنه الشيخ عبدالحميد احمد العبادي، المكنى بأبي احمد، تيمنا بأبيه الطبيب الراحل احمد علي سالم العبادي الحوشبي، الذي حافظت عائلته على ذكره، وأصرت على أسمه، وما زالت تذكره قائدا، وتعظمه أخا، وتفتخر به مسؤولا، وتتشرف به مناضلا وطبيبا، وهو الذي سبقهم إلى ميادين المقاومة وسوح النضال، وغرس فيهم حب الوطن والتضحية في سبيله، وعلمهم البذل والعطاء بلا حدود والفداء من أجل الوطن، فكان عبدالحميد، وفيا له، ومخلصا مثله، وصادق الوعد يشبهه، سائراً على الدرب، وماضيا على النهج، وحافظا العهد، وواثقا الخطى فاعلا للخير متورعا وزاهدا بالنبل والإنسانية.

 

وافته المنية فجأة في أحد ليال العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم للعام الفارط 2021م، وهو يحمل هموم الفقراء والمرضى والأيتام والأرامل وطلبات المعدمين والمحتاجين، ويحفظ في ذاكرته مطالبهم الملحة وحالاتهم الإنسانية، وهمومهم اليومية، وهو الذي عاش بينهم، وأصر أن يكون منهم ولا يختلف عنهم، يجاورهم ولا يسكن بعيدا عنهم، يخف إليهم كل صباح، ويطرق أبوابهم في الليل والنهار، وقد عمر بيت العائلة الكبير وفتحه، وجعله عنوانا لأهله، وبيتا لشعبه، وسرداقا لأفراحه، ومنزلا يخفف أحزانهم ويسري عنهم، ويهون عليهم همومهم وآلامهم وأوجاعهم، كما عمر بيوت الله في أكثر من بقعة من هذه الأرض لتكون شاهدة له على أفعاله الخيرية ومن المآثر الخالدة التي تدل على صلاحه وإحسانه.

 

فقد كان أبا احمد، الباسم الثغر، العذب الكلمة، الباش الوجه، الحيوي النشط، السريع السباق، الخدوم المعطاء، البسيط المتواضع، الطيب الخلوق، والمعروف بصفحه وعفوه وتسامحه والمشهور ببسمته، يسعى لشعبه وابناء أمته ويعمل ليل نهار من أجلهم، ويسخر أوقاته خدمة لهم، ويوظف علاقاته لتقديم العون والمساعدة والتخفيف عنهم أعبائهم، رفع عن كواهلهم الهموم، ورسم على شفاههم البسمة، وزرع في قلوبهم الأمل، وقد رحل عن الدنيا وملفات شعبه بين يديه.

 

لم يتخل أبا احمد يوما عن تلك الشريحة من الفقراء والمعوزين والمحتاحين، ولم يبخل عليهم، حتى آخر يوم من حياته، لم تشغله همومه عنهم، ولم ينسه مرضه ومعاناته حاجات أهله وشجون شعبه، لقد استحق بجدارة لقب "حبيب الشعب"، وكان جديرا به، فقد منحه الشعب هذا اللقب مختارا، وقلده أرفع الأوسمة الشعبية، ووضعه في أعلى المناصب والرتب الوطنية، وعلق على صدره أعظم النياشين الإنسانية، وليس أصدق من الشعب وصفا، ولا أخلص منه تقديرا، فقد رأوا فيه الصدق والخير والوفاء، والحب والحرص، والعمل والعطاء، والإخلاص والتجرد، والتفاني والإيثار، وهو الذي فتح بيوتا مغلقة، وأفرح قلوبا حزينة، وكفكف دموعا ساخنة، ومسح على رؤوس الأطفال الأيتام وربت على ظهورهم، وأقسم لهم أن يبرهم ويحفظهم، وأن يرعاهم ويكلأهم، وأن يعوضهم ما استطاع عمن فقدوا، فلا يشكون عجزا، ولا يشكون نقصا، ولا يعانون عوزا وحاجة.

 

يؤكد الجميع، أنهم ما شهدوا منذ سنوات جنازة تشبه جنازة المرحوم الشيخ الجليل والخطيب الواعظ والمربي الفاضل الأستاذ عبدالحميد العبادي، فقد كانت جنازة مهيبة، ومسيرة عظيمة، ووداعا شعبيا مشهودا، وحضورا لأفتا، استرعى الأنظار كثافته، ولفت المراقبين حشوده، وقد خرجوا من بيوتهم، رجالا ونساء وأطفالا، وشيبا وشبابا، على أقدامهم سائرين، مختارين طائعين، صامتين بخشوع وباكين بألم، وكأن الفقيد فقيدهم، والمرحوم أبنهم، والفاجعة فجيعتهم، يودعون رجلا منهم، لا يختلف عنهم، ولا يتكبر عليهم، يشعر بأوجاعهم، ويتألم لمعاناتهم، ويحلم مثلهم.

 

في وجوه المعزين الكثيرة رأيته، وفي عيونهم شاهدت ملامحه وعرفت الكثير من صفاته، فقد أَمَّ بيت العزاء في دار أخيه العامرة بمدينة المسيمير، آلاف الناس الذين توافدوا من مختلف الأرجاء عرفهم وعرفوه، وألفهم وألفوه، وكان لهم سندا وعونا، فرأيت الفزع في عيونهم، والجزع في نفوسهم، فقد انكسر ظهرهم، وغاب معيلهم، ورحل الرجل الذي يعنى بهم، ولسان حالهم يقول من لنا من بعده، ومن سيهتم بشؤوننا بعد رحيله، وهو الذي كان لا يرد أحدا، ولا يطرد سائلا، ولا يمتنع عن مساعدة محتاجا، فكان ينفق من لا يخشى الفقر، ويعطي من يملك سخاء البحر، وإن لم يكن في جيبه شيئا أو في حوزته مالا، فقد كان يعطي وعينه في عيني الله عز وجل الذي لا يخيب أمثاله، ولا يفقده رجاءه.

 

أما بالنسبة لي شخصيا فقد أفجعني موته، وأحزنني رحيله، وإن كنت أؤمن بالقضاء والقدر وأسلم بالأجل، وأرضى بحكم الله عز وجل وقضائه، ولكن غيابه السريع وموته المفاجئ آلمني، وهو الذي عرفته أخا معينا وصديقا قريبا وصهرا قديرا، ألفته منذ اليوم الأول لتعرفي عليه، وأحببته منذ أن عرفته، وشاركني أعباء وهموم الحياة في كثير من المواقف، وسعدت وافتخرت به، فهو من سبق الجميع عملا وعطاء، وجهدا وسعيا وتضحية، فكان من أوائل من خدام هذا الدين والوطن، فما من واجب رأى أنه يستطيع أن يقوم به وأن يحسن فيه إلا وادآه، فسبق بالفضل من سواه فلله دره حيا وميتا.

 

رحم الله رجل البر والإحسان الشيخ عبدالحميد العبادي، وتغمده بواسع رحمته، وجعل الجنة مثواه والفردوس الأعلى منزله، وجمعه في جنان الخلد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الأخيار والشهداء الأبرار، وعوض الله أهله خيرا، وجعل أولاده من بعده خير خلف لخير سلف، يبرونه ميتا، ولا يقطعون عمله الصالح وقد رحل، ويحفظون بيته عامرا وذكره طيبا، ويواصلون بالبر عطاءه وبالخير افعاله، فقد والله سبق بصدقه، ونال الدرجات العلى بإخلاصه، ولا نزكيه على الله عز وجل، ولكننا ندعوه سبحانه وتعالى أن يجعله في الآخرة كما كان في الدنيا في أعلى عليين، فرحمة الله عليك أبا احمد وسلام الله عليك في الخالدين.