الخلافات تعصف بتنظيم داعش
انشقاقات وحقد طبقي وراء مقتل أبومصعب البرناوي زعيم داعش في غرب أفريقيا
أعاد الإعلان عن مقتل زعيم تنظيم داعش في غرب أفريقيا أبومصعب البرناوي إلى الواجهة ما يدور داخل التنظيم من تفاعلات وصراعات، خاصة وأن الرجل سقط بعد مقتل غريمه ومنافسه أبوبكر شيكاو.
ويلف الغموض هذه المسألة برمتها لأنه من المفترض أن يكون البرناوي قد اكتسب نفوذًا ومنعة بعد التخلص من أشرس منافسيه في يونيو الماضي الذي فجر نفسه بعد حصاره من قبل مجموعة موالية للبرناوي.
ولا يوجد فهم منطقي لهذه التطورات سوى بالوقوف على ما يدور من نزاعات داخلية وانشقاقات مركبة ومتعاقبة تبيّن أنه يجري استغلالها من قبل حكومات دول غرب أفريقيا بغرض إضعاف التنظيمات الجهادية وشق صفوفها وإغراء عناصرها لتركها.
وتزامنت موجة الانشقاقات مع مقتل أبوبكر شيكاو الزعيم السابق لتنظيم بوكو حرام الذي خاض صراعًا داميًا مع داعش ولاية غرب أفريقيا في يونيو الماضي، وشملت نزوحًا لأعداد ممن كانوا يأتمرون بأمر شيكاو واضطروا للانضواء تحت سيطرة تنظيم داعش بقيادة أبومصعب البرناوي.
ومن اضطروا إلى الانتقال منذ هذا التاريخ إلى فرع داعش بغرب أفريقيا وعددهم ليس بالقليل عانوا خلال هذه الفترة من التمييز على عدة مستويات، فضلًا عن الخلافات العميقة من منطلقات أيديولوجية وطبقية قادت في النهاية إلى انشقاق آخر بعد الانشقاق الأول لكن هذه المرة إلى خارج الحالة الجهادية برمتها، بعد أن تغيرت طريقة تعاطي حكومات دول غرب أفريقيا، مثل تشاد ونيجيريا، مع المنشقين عن تنظيمات تكفيرية مسلحة.
بات من المؤكد أن عددًا من مقاتلي بوكو حرام السابقين من الذين انتقلوا لاحقًا بعد يونيو الماضي، وهو تاريخ تفجير شيكاو نفسه، قرروا قطع التعامل مع كل من بوكو حرام وداعش، وسلموا أنفسهم للأجهزة الأمنية بأسلحتهم وفقًا لتقارير السلطات النيجيرية.
وأسهم في ذلك ما حدث من تحولات في أساليب تعامل الحكومة مع المنشقين من معاملة قاسية في السابق وصلت إلى درجة تنفيذ إعدامات دون محاكمة، فضلًا عن ظروف اعتقال وحشية، وأدت هذه الحالة إلى الترحيب واحتواء وتطبيق خطط دمج المقاتلين المنشقين في مجتمعاتهم.
وشجع تغير معاملة حكومة نيجيريا مع المنشقين عن داعش وبوكو حرام على الانشقاق وزاد من وتيرة حركة الخروج، لكن الأسباب الحقيقية للانشقاق كامنة داخل التنظيمات ومرتبطة بجملة من الإشكالات المركبة التي كابدها المسلحون في انتقالاتهم من جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد إلى تنظيم داعش في ولاية غرب أفريقيا.
وقبل تلك الانتقالات راجع الكثيرون قناعاتهم السابقة من منطلق الشعور بالذنب نتيجة اقتراف جرائم مبنية على فهم مغلوط لنصوص الدين، علاوة على الشعور بمظالم التهميش والتمييز الطبقي والتفريق بين من هو مقاتل أجنبي ومن هو من أصول أفريقية ويتحدث بلغة غير العربية، ومن هو عربي ومن أصول عربية.
التسلسل الطبيعي للأحداث هو أن يعزز أبومصعب البرناوي وهو الزعيم الأقل تشددًا وأكثر لينًا مع المدنيين سيطرته وهيمنة مجموعته المسلحة في شمال شرق نيجيريا ومنطقة بحيرة تشاد بعد التخلص من مبعث الانشقاقات والخلافات الداخلية التي كانت تحتدم نتيجة سلوك أبوبكر شيكاو ومجموعته الدموية حيال المدنيين والفتيات.
وما وجده المنشقون والمنتقلون من جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد في داعش في نسخته المرنة بقيادة البرناوي من بناء علاقات جيدة مع المدنيين ومنع الهجمات ضدهم وضد مصالحهم ومصادر أرزاقهم والتركيز فقط على تنفيذ هجمات ضد قوات الجيش، لم يكفِ لدفعهم إلى الاستقرار في كنف جناح داعش بغرب أفريقيا، حيث وجدوا فيه ما جعلهم ينفرون منه ويخططون لتركه.
وبعد أن اعتاشوا على الغنائم التي ظلوا يحوزونها بعد تنفيذ عمليات النهب الموسعة ضد المدنيين فقدوا هذا المصدر الرئيسي من مصادر تمويلهم نتيجة تحريم البرناوي الاعتداء على المدنيين وممتلكاتهم، فضلًا عن انتقالهم إلى مستوى أقل في تراتبية القيادة وفقدانهم لمواقعهم التي كانوا يحتلونها في السابق.
وخلال الأشهر القليلة الماضية بعد مقتل أبوبكر شيكاو تبدلت الأوضاع في شمال شرق نيجيريا التي صارت تحت سيطرة داعش، وهناك من المسلحين من انتقل إلى داعش ثم تركه في الأخير مستفيدًا من برامج الدمج والاحتواء الحكومي، ومنهم من ظل يقاتل مع التنظيم خاصة في المنطقة الشمالية لبحيرة تشاد الواقعة على الحدود بين النيجر وتشاد، واستمروا في السير على نهج شيكاو للحفاظ على مواقعهم القيادية ومصادر معيشتهم السابقة من عمليات النهب والسلب.
ولا يخرج قتل أبومصعب البرناوي الذي لم تُذكر بعد تفاصيله وملابساته عن إحدى سيناريوهين: الأول أن يكون سقط في مواجهة مع جيب من الجيوب المتبقية لبوكو حرام، والثاني أن تكون هناك معلومات قد وصلت لقوات الجيش النيجيري عن مكانه وتفاصيل دقيقة عن تحركاته من بعض المنشقين الذين هربوا من بوكو حرام ومن داعش معًا وسلموا أنفسهم للقوات العسكرية النيجيرية هربًا من تردي أوضاعهم المعيشية وفقدانهم لمراكزهم القيادية ومعاناتهم من الاستعلاء والتمييز الطبقي على أساس اللغة والجنسية.
وازداد حجم الانشقاقات داخل بوكو حرام أولًا وداخل تنظيم الدولة بولاية غرب أفريقيا ثانيًا بعد تفعيل برامج الدمج الحكومي للمنشقين وضمان عدم إيذائهم وإلحاق الضرر بهم، حيث وجدوا أخيرًا الملاذ الذي ينقذهم من تيه ارتكاب جرائم مروعة عبر تلبيسها بأقنعة دينية زائفة، ومن حرمانهم من مراكزهم ومواقعهم القيادية من منطلق تمييز طبقي بين من هو أفريقي لا يتحدث العربية وآخر شرق أوسطي يتحدث العربية ومن أصول عربية.
أوصل تمييز تنظيم داعش لعناصره العراقيين عن الأجانب وشرهه في السيطرة على الثروات في المجتمعات الأفريقية إلى رواج وصحوة في أوساط الكيانات الجهادية الإثنية للدفاع عن مصالحها ومنع كيان غريب عن أفريقيا من الاستحواذ على ثروات بلدانها.
ويُرجح أن تكون استراتيجية داعش في حرمان الأجانب والأفارقة بكل الطرق الممكنة من أي مناصب قيادية دافعًا مضافًا للإيقاع بأبومصعب البرناوي، وهي ذاتها محور عملية قتل أبوبكر شيكاو، حيث أثبتت الوقائع تحري داعش التخلص من قادة الجهاديين المؤثرين من الأفارقة داخل الساحات الأفريقية، مقدمًا عليهم قادة من العراقيين ومن أصول عربية.
وفي مواجهة الانتقادات المتزايدة للعرب المنتمين لداعش وتحديدًا العراقيين شن عدد من المنتمين للتنظيم حملة تشويه بحق القادة غير العرب والأفارقة بهدف تخفيف الضغوط ومحاولة اكتساب شرعية الحضور التي يحاول الجهاديون الإثنيون والأفارقة نزعها ومن ضمنهم البرناوي.
وكتب أحد منظري داعش معددًا المثالب التي أرساها عناصر التنظيم الأجانب ومن ذوي الأصول الأفريقية وأدت إلى نفور المدنيين من الجهاديين نتيجة ما وصفه بأيديولوجيتهم المريضة التي هي على شاكلة أيديولوجية أبوبكر شيكاو زعيم بوكو حرام الذي فجر نفسه يونيو الماضي.
وزعم منظرو داعش أنهم ليس باستطاعتهم “تحرير المسلمين من الكفار في أفريقيا من دون ردع المقاتلين الأجانب الذين يدمرون مخططاتنا ويقتلون النساء المسلمات مع أولادهن في المخيمات ويلحقون الأذى بالمدنيين، فيما نقتل نحن الجنود ونستولي على أغراضهم دون المساس بالمدنيين الذين يدعموننا ويثنون على محاربتنا للعسكريين”.
ووراء محاولات داعش العراقي والقادة العرب داخل التنظيم الحط من قدر العناصر الأجنبية ومن أصول أفريقية وتتحدث بلغة غير العربية هدف رئيسي وهو نزع الشرعية عن الأجانب بالتنظيم، والإطاحة بهم لفتح الطريق أمام التوسع في ساحات أرحب بأفريقيا والاستيلاء على موارد الحركات الجهادية المحلية بتلك المناطق وإخضاعها لأجندة داعش العراقي وعدم منح الفرصة للجهاديين المحليين لمقاومة تلك الخطط استنادًا إلى الانتماء المحلي والدعم الجماهيري.
وفي مقابل محاولات العراقيين والعرب بداعش تعزيز شرعيتهم بنزع شرعية الأجانب، يُعلي القادة المحليون والعناصر الأفريقية من الأولويات المحلية ويُسفهون من الأجندة العالمية لداعش العراقي ويدفعون باتجاه تنمية شعور عام بالخطر من استيلاء الأغراب والعرب على الثروات الأفريقية، وهو ما كان يحرص عليه أبومصعب البرناوي.
روج القاة الجهاديون الأفارقة لخطاب ورواية طبقية مضادة لتلك التي يروجها قادة داعش العرب بشأن مزاعم التفوق الطبقي لقادة وعناصر التنظيم من أصول عراقية على من سواهم من المنتمين إلى جنسيات وأصول أفريقية.
ونتيجة بحث داعش عن مناطق جديدة للتمركز والتوسع في أفريقيا وغيرها بعد فقدانه لخلافته في العراق انقسم التنظيم تدريجيًا إلى جناحين متصارعين، أحدهما يكثف من عملياته خاصة في غرب أفريقيا ويوسع من أنشطته عبر فرعيه الرئيسيين “ولاية غرب أفريقيا” و”تنظيم داعش في الصحراء الكبرى”، مستفيدًا من الثروات التي يهيمن عليها وعدم وجود مؤسسات أمنية قوية وانتشار الفقر والفساد والتوترات العرقية وتواضع مستويات الجهود المبذولة لمجابهة الجماعات المسلحة أمنيًا واستخباراتيًا.
وضم هذا الجناح لداعش الكثير من العناصر العراقية والسورية ممن يمتلكون قدرات وخبرات عسكرية متطورة ويعتنقون أيديولوجيا الجهاد العالمي العابر للحدود، وهؤلاء نتاج مرحلة هزيمة تنظيم الدولة في العراق والموصل حيث تدفق بعدها أكثر من خمسة آلاف مقاتل أجنبي غالبيتهم عرب لديهم الخبرة في المعارك على الجبهات وصلوا إلى ليبيا ومنها إلى البلدان الأفريقية، وهو ما فسر ازدياد أعداد المقاتلين العرب المنضمين إلى داعش في غرب أفريقيا والصحراء الكبرى وباقي أفرع داعش كما في الموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وفي موازاة هذا الجناح لداعش بأفريقيا طرحت الكيانات الجهادية المحلية نفسها كمدافعة عن الثروات والموارد المحلية، ويتضح التباين داخل داعش من منطلق الصراع على السلطة والمال والنفوذ والتحكم بمفاصل اللعبة على الأرض لا من خلال عمليات أمنية واشتباكات فحسب، إنما يتجاوز ذلك إلى تثبيت الهويات والإثنيات والتمحور حولها، وتطبيق قواعد تهدد مصالح القوميات المحلية ولا تحترم تقاليدها وتتوخى حرمان فرص حيازة النفوذ من منطلقها عبر تهميش القادة الأفارقة أو إزاحتهم من المشهد.