تقارير وحوارات
الدبلوماسية في اليمن
السفير السعودي في اليمن.. دبلوماسي أم مندوب سامٍ؟
في العرف الدبلوماسي، لا يتجاوز السفير حدود مهمته المرسومة؛ فهو ممثل لبلاده في الدولة المضيفة، يتابع شؤون العلاقات الثنائية، يسهل التبادل الاقتصادي والثقافي، ويحرص على إبقاء جسور التواصل مفتوحة بين الحكومتين. غير أنّ التجربة اليمنية منذ العام 2015 أفرزت واقعًا مغايرًا تمامًا لما هو مألوف في العلاقات الدولية. فالسفير السعودي لم يعد مجرّد سفير يؤدي واجباته التقليدية، بل تحوّل تدريجيًا إلى لاعب رئيسي يفرض قرارات، ويوجّه سياسات، ويتدخل في تفاصيل تتجاوز صلاحيات أي بعثة دبلوماسية.
هذا التحوّل لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق السياسي والعسكري الذي تعيشه اليمن. فمنذ انطلاق عملية "عاصفة الحزم"، باتت السعودية ليست مجرد داعم سياسي أو عسكري، بل قوة صاحبة قرار مباشر في المشهد اليمني، وهو ما انعكس على طبيعة عمل سفارتها. ومع تراجع استقلالية الحكومة اليمنية ومحدودية نفوذ مجلس القيادة الرئاسي، اتسع هامش تدخل السفير السعودي حتى صار أقرب إلى "المفوّض السامي" الذي يملك الكلمة العليا في ملفات حساسة، من تشكيل الحكومات وتعيين المسؤولين، إلى رسم توجهات السياسة الإعلامية، بل وحتى التدخل في الخلافات داخل المكونات اليمنية المختلفة.
يعتمد هذا النفوذ على عنصرين أساسيين: المال والسياسة. فالسعودية تمسك بملف الودائع المالية والمساعدات الإنسانية والمشاريع التنموية، وتربط صرفها غالبًا بمسارات سياسية محددة، الأمر الذي يحوّل السفير إلى مركز ثقل لا يمكن تجاوزه. كما أنّه يجلس في قلب شبكة واسعة من العلاقات مع القوى اليمنية، ما يجعله طرفًا حاضرًا في كل نقاش حول مستقبل البلد، سواء على مستوى الحرب أو السلام.
لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يتناسب هذا الدور مع الأعراف الدبلوماسية؟ الجواب بوضوح لا. فالمشهد الذي يتكرر في اليمن أقرب إلى ممارسات الانتداب أو الوصاية، حيث يصبح السفير ممثلًا لسلطة أعلى تتحكم في القرارات السيادية، أكثر منه مجرد قناة للتواصل بين دولتين ذات سيادة. وهذا الوضع، مهما جرى تبريره بالظروف الاستثنائية، يترك أثرًا سلبيًا على صورة الشرعية اليمنية، ويكرّس انطباعًا بأن القرار لم يعد يمنيًا خالصًا، بل مرهونًا بمدى رضا "سعادة السفير".
التاريخ يقدّم لنا مقارنات مشابهة. فكما لعب المندوب البريطاني في عدن دور الحاكم الفعلي للمحميات الجنوبية قبل الاستقلال، وكما مارس الحاكم المدني الأمريكي في العراق بعد 2003 صلاحيات مطلقة على الدولة العراقية، نجد أنّ السفير السعودي في اليمن يسير في خط موازٍ، وإن كان بوسائل أكثر نعومة وأقل مباشرة، لكنه لا يقلّ تأثيرًا وخطورة.
إنّ تجاوز السفير لصلاحياته ليس مجرّد حدث عابر، بل علامة فارقة تكشف عن طبيعة العلاقة بين الرياض وصنعاء في هذه المرحلة. فالسعودية تنظر إلى اليمن باعتباره مجالًا حيويًا لا يمكن تركه لتوازنات داخلية هشّة، بينما تعجز الحكومة اليمنية ومجلس القيادة الرئاسي عن فرض استقلالية قرار يضع حدودًا واضحة لهذا النفوذ. والنتيجة هي مشهد مربك تتداخل فيه أدوار الدولة والسفارة، وتذوب فيه الخطوط الفاصلة بين السيادة والوصاية.
يبقى أن ندرك أنّ ما يجري ليس مجرد "نشاط زائد" من سفير مكلّف، بل سياسة ممنهجة تعبّر عن رؤية سعودية لطبيعة إدارة الملف اليمني. وهذه الرؤية، ما لم تُواجَه بقدرة يمنية على إعادة التوازن في العلاقات، ستظل تُفرغ المؤسسات من مضمونها، وتجعل القرار الوطني مرهونًا بختم يخرج من مبنى السفارة أكثر مما يخرج من قصر الحكم في عدن.