اخبار الإقليم والعالم
دستور دولة فلسطين يختبر شرعية سلطة عباس
أثار إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس تشكيل لجنة لصياغة دستور مؤقت لدولة فلسطين، جدلا واسعا، لا بسبب توقيته فقط، بل لكونه يشكّل اختبارا مباشرا لشرعية السلطة الفلسطينية، وقدرتها على تمثيل الكل الفلسطيني في لحظة وطنية مفصلية.
ويرى محللون أن هذه الخطوة، وإن كانت من حيث المبدأ تعكس رغبة في الانتقال من كيان السلطة الوطنية إلى دولة قائمة على أسس قانونية ودستورية، إلا أنها سرعان ما انزلقت إلى دائرة التساؤلات حول نواياها، وجدواها، ومدى قدرتها على التأسيس لمشروع وطني جامع وليس مجرّد وثيقة شكلية.
وفي الشكل، بدا المرسوم الرئاسي، الذي يقضي بتشكيل لجنة مكوّنة من 17 عضواً يرأسها المستشار القانوني محمد الحاج قاسم، وكأنه خطوة تقنية تستجيب لمتطلبات المرحلة المقبلة، وتؤسس لمرجعية دستورية تستند إلى وثيقة إعلان الاستقلال الصادرة عام 1988، ومبادئ القانون الدولي، والمواثيق الحقوقية الأممية.
غير أن المضمون السياسي الفعلي لهذه الخطوة لا يمكن فصله عن السياق الأوسع المتمثل في محاولات القيادة الفلسطينية استباق التطورات الإسرائيلية، لاسيما طرح ضم الضفة الغربية بشكل نهائي إلى إسرائيل، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لأيّ مشروع سيادي فلسطيني.
ويرى الخبير السياسي سليمان بشارات أن هذه الخطوة تعكس رغبة في ملء فراغ قانوني ودستوري عمره عقود، خصوصا أن السلطة الفلسطينية لا تزال محكومة بالقانون الأساسي الذي أُقرّ في سياق المرحلة الانتقالية، وكان من المفترض أن يتم تجاوزه بعد سنوات قليلة من توقيع اتفاق أوسلو. ومع تعثر مفاوضات التسوية، وانسداد الأفق السياسي، بات من الضروري – بحسب بشارات – الانتقال إلى مشروع دستوري متكامل، يعيد تعريف الدولة وحدودها ونظامها، ويمنحها الهوية القانونية اللازمة لتقديمها ككيان
يستحق الاعتراف الكامل به. لكن رغم هذه النوايا، فإن التحدّي الأكبر الذي يواجه مشروع الدستور يكمن في مسألة التمثيل. ويشير متابعون إلى أن هناك قلقا واسعا بين فئات من الفلسطينيين، داخل الضفة وخارجها، من أن تتحول اللجنة إلى أداة حصرية بيد القيادة الحالية، تعكس رؤيتها ومصالحها السياسية، لا تطلعات شعب بأكمله.
ويرى محللون أن نجاح هذه المبادرة لا يعتمد فقط على الصياغة القانونية للدستور، بل على قدرة اللجنة على إشراك مختلف مكوّنات المجتمع الفلسطيني، من قانونيين وحقوقيين وشباب ونساء وممثلي الشتات، بما يعكس التعددية التي يُفترض أن تكون أساس أيّ عقد اجتماعي.
◙ مع تزايد الفجوة بين القيادة والشعب، يصبح أي مشروع دستوري مطعونا في مصداقيته، إذا لم يُبْنَ على المشاركة الواسعة
ويأخذ هذا التحدي بعدا إضافيا حين يوضع في سياق أزمة الشرعية التي تعانيها السلطة الفلسطينية. ومع غياب الانتخابات العامة لأكثر من 17 عاما، وتآكل مؤسسات التمثيل، وتزايد الفجوة بين القيادة والشعب، يصبح أيّ مشروع دستوري عرضة للطعن في مصداقيته، إذا لم يُبْنَ على قاعدة المشاركة الواسعة.
ويقول مراقبون أن الدستور، في النهاية، ليس مجرّد وثيقة قانونية بل هو تعبير عن عقد اجتماعي شامل يعبّر عن إرادة شعب لا عن توجه نخبة سياسية. وفي هذا السياق، يُنظر إلى مبادرة صياغة الدستور كاختبار حقيقي لقدرة السلطة الفلسطينية على إعادة بناء شرعيتها عبر الانفتاح على قاعدتها الشعبية.
وبالتالي فإن أيّ اختزال لهذا المشروع في بعده المؤسساتي أو النخبوي، قد يحوّله من فرصة تاريخية إلى أزمة إضافية تعمّق الانقسام السياسي والمجتمعي.
ويأتي مرسوم تشكيل اللجنة في وقت يواجه فيه الرئيس محمود عباس انتقادات واسعة محليا ودوليا بسبب استمرار تأجيل الانتخابات، وتراجع مؤشرات الثقة الشعبية في أداء السلطة.
وهذا ما يجعل من خطوة صياغة الدستور اختبارًا مزدوجًا: فهي من جهة محاولة لبناء إطار قانوني جديد، ومن جهة أخرى قد تُعتبر محاولة لتثبيت شرعية سلطة تواجه تحديات داخلية متراكمة. ويقول بشارات “الدولة لا تُبنى بمرسوم، بل بتوافق، والدستور لا يُكتب في الغرف المغلقة بل في فضاء حوار وطني واسع يضم الجميع، بمن فيهم من يعارض السلطة أو يشكك في شرعيتها.”
وأما التحدي الآخر الذي يواجه مشروع الدستور هو السياق الإقليمي والدولي. فإسرائيل، بدعم أميركي، تواصل حرب غزة، وتسعى لتكريس سيادتها على الضفة الغربية عبر أدوات قانونية وتشريعية داخل الكنيست.
وفي المقابل، تشهد القضية الفلسطينية زخما سياسيا عالميا مع تزايد الاعترافات الدولية بدولة فلسطين. وفي هذه اللحظة المتناقضة، يصبح إطلاق دستور فلسطيني ضرورة رمزية وسياسية لإثبات وجود الدولة الفلسطينية على الورق وفي الوعي العالمي، لكنها أيضا مسؤولية ضخمة قد تتحول إلى عبء إذا لم تتم إدارتها بحكمة.
ويمكن أن يمنح إشراك الجاليات الفلسطينية في الخارج، والاستماع إلى صوت اللاجئين، وتفعيل منصة إلكترونية لتلقّي الاقتراحات كما ورد في المرسوم الرئاسي، المبادرة بعض المصداقية، لكن ذلك لا يكفي.
فالمطلوب أن يشعر الفلسطيني، أينما كان، أن هذه الوثيقة تمثّله، وأنها لا تعيد إنتاج السلطة القائمة بقدر ما تفتح أفقًا لبناء دولة على أساس العدالة والحقوق والمواطنة، وإلا، فإن وثيقة الدستور قد تتحوّل إلى أداة لتعميق أزمة الشرعية، لا إلى وسيلة لتجاوزها.
وفي السنوات الأخيرة، تراجعت العلاقة بين القيادة الفلسطينية والمجتمع المدني إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر والتباعد. ولا يرتبط هذا التراجع فقط بطبيعة النظام السياسي القائم منذ سنوات على تعطيل الانتخابات وتكريس سلطة الفرد، بل يمتد ليشمل غياب أيّ قنوات حوار جدي أو تشاركية فعلية في صناعة القرار الوطني.
وتعاني مؤسسات المجتمع المدني، التي شكّلت تاريخيًا ركيزة من ركائز العمل الوطني الفلسطيني، اليوم من تهميش مقصود، يقابله تغوّل واضح من قبل الأجهزة الرسمية في كل ما يتعلق بالحريات، وحرية التعبير، ومراقبة الأداء الحكومي.
وتتجلّى هذه الديناميكية القائمة على المركزية والانغلاق بوضوح في قرار تشكيل لجنة صياغة الدستور المؤقت، حيث لم تُجرِ القيادة الفلسطينية أيّ مشاورات علنية مع مؤسسات المجتمع المدني، ولا حتى مع الفاعلين النقابيين أو ممثلي الفئات الشبابية والنسوية أو الشتات.
ولا يمكن النظر إلى هذا الغياب باعتباره خللا إجرائيا فقط، بل هو مؤشر عميق على أزمة في فهم وظيفة الدستور كعقد اجتماعي جامع، لا مجرد أداة قانونية تنبثق من السلطة الحاكمة.
◙ نجاح المبادرة لا يعتمد فقط على الصياغة القانونية للدستور، بل على قدرة اللجنة على إشراك مختلف مكوّنات المجتمع الفلسطيني
وفي ظل هذه القطيعة بين المجتمع المدني والقيادة، تنبع المخاوف من أن تتحوّل صياغة الدستور إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة نفسها، لا إلى إطار تأسيسي يعكس إرادة جماعية فلسطينية. فالدستور الذي لا ينشأ من حوار وطني واسع، ولا يُصاغ بالتوافق مع مختلف التيارات المجتمعية والسياسية، يفقد بالضرورة جزءًا كبيرًا من شرعيته، ويُنظر إليه كوثيقة فئوية أو وظيفية، لا كمرجعية عليا للدولة.
وما يفاقم الوضع هو أن جزءا كبيرا من مؤسسات المجتمع المدني باتت ملاحقة أو مقيدة، سواء عبر سحب تراخيص أو خنقها ماليًا، أو عبر حملات تخوين إعلامية، ما جعل بيئة العمل المدني الفلسطيني بيئة مضطربة وغير آمنة.
ويدفع هذا المشهد بالكثير من المنظمات إلى اتخاذ مواقف حذرة أو صامتة، خشية الصدام مع السلطة، ما يضعف بدوره قدرتها على لعب دورها الطبيعي كموازن وناقد ومشارك في الحياة العامة.
ومن هنا، فإن تشكيل لجنة صياغة الدستور بمعزل عن المجتمع المدني لا يثير فقط إشكاليات تتعلق بالتمثيل والشفافية، بل يعكس نمطًا مستمرًا من الانغلاق السياسي الذي يجعل من مؤسسات الدولة أداة بيد السلطة، لا تجسيدًا لمصالح المواطنين.
وإذا استمر هذا النهج، فإن فرص قبول الوثيقة الدستورية كمرجعية وطنية ستبقى محدودة، وسيتحول الدستور إلى ورقة تقنية أو رمزية لا تملك عمق الشرعية المجتمعية المطلوبة في هذه اللحظة الفلسطينية الدقيقة.
وفي ضوء هذه المعطيات، فإن الخطوة التي اتخذها الرئيس عباس تظل معلّقة على شرط جوهري: أن تكون لجنة صياغة الدستور انعكاسًا حقيقيًا للتعدد الفلسطيني لا امتدادا ضيقا لمؤسسة السلطة. فشرعية الدولة لا تُفرض، بل تُكتسب، والمجتمع الدولي لا يبحث عن نصوص بقدر ما يبحث عن مؤشرات على الجدية والتعددية والانفتاح.
ومن هنا، فإن أهم ما يمكن أن تمنحه هذه المبادرة للقضية الفلسطينية ليس فقط وثيقة دستورية، بل فرصة نادرة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي الفلسطيني، وتجديد شرعية النظام السياسي من خلال الاعتراف المتبادل بين الشعب ومؤسساته. إنها لحظة دقيقة تختبر فيها القيادة الفلسطينية نفسها قبل أن تختبر قدرتها على إقناع العالم.
ويتساءل مراقبون: هل تنجح السلطة في تحويل لحظة الخطر إلى لحظة تأسيس حقيقي لدولة يحلم بها الفلسطينيون؟ أم أن الأمر سينتهي كغيره من المبادرات، معلّقًا بين النوايا الحسنة والواقع العصيّ؟