اخبار الإقليم والعالم
حفتر وأبناؤه: من معركة التحرير إلى إستراتيجية الاستقرار
جدل واسع تعرفه الأوساط السياسية الليبية هذه الأيام بمناسبة الإعلان رسميًّا في بنغازي عن تعيين صدام حفتر نائبًا للقائد العام للقوات المسلحة، وخالد حفتر رئيسًا للأركان العامة، ومصادقة مجلس النواب في الاجتماع على ذلك، ضمن خطة لإعادة هيكلة القيادة العسكرية في إطار رؤية 2030 لتطوير القوات المسلحة التي وضعها القائد العام المشير خليفة حفتر؛ لتأمين الاستمرارية وضخ دماء جديدة في المؤسسة.
لا يمكن فصل ذلك الجدل عن حالة السجال الحاد الذي تعرفه البلاد منذ سنوات في ظل حكم الميليشيات بالمنطقة الغربية، وفشل جهود حل الجماعات المسلحة وإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، فيما يخشى السكان المحليون أن يتواصل الوضع على ما هو عليه في العاصمة طرابلس إلى أجل غير مسمى، نتيجة اعتياد القادمين إلى الحكم بمفعول الوصاية الدولية على خرق كل التوافقات وإصرارهم على التمسك بالسلطة وامتيازاتها، كما حدث بعد اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 واتفاق تونس في نوفمبر 2020.
شكَّلت التعيينات العسكرية الجديدة حدثًا مهمًّا على الصعيدين الداخلي والإقليمي، حيث أكدت مرة أخرى أن المشير حفتر يمتلك زمام الزعامة السياسية إلى جانب القيادة العسكرية، وهو يعرف متى يتخذ القرار المناسب، ومتى يخرجه إلى العلن، وكيف يتقدم به إلى الناس في صورة تنسجم مع الواقع الجديد الذي تعرفه مناطق نفوذ الجيش، وخاصة في شرق البلاد حيث كل شيء يشِي بتحولات كبرى على صعيد التنمية وإعادة الإعمار واستقطاب الاستثمارات وعقد الشراكات مع دول مؤثرة إقليميًّا وعالميًّا.
في العام 2011، شهدت ليبيا انتفاضة شعبية حَصَلَ تناقض واضح في توصيفها وتقويم منطلقاتها وأطوارها ونتائجها، بسبب ما رافقها من حرب إعلامية شرسة، ومن تدخلات أجنبية مباشرة، ومن تحركات على أكثر من صعيد لتمكين تيار الإسلام السياسي من بسط سلطته على دول المنطقة في سياق ما سُمِّيَ بـ”الفوضى الخلاقة”.
أدت تلك الانتفاضة إلى تصدع في الجبهة الداخلية وإلى انقسام في المجتمع، وهو ما فرض العمل على إنقاذ البلاد ببرنامج إصلاحي شامل، وهو ما تحقق بالفعل انطلاقًا من برقة.
اكتسب المشير خليفة حفتر شرعية القيادة عندما أطلق معركة التحرير الثانية في مايو 2014، وحوَّلها إلى ثورة حقيقية على الميليشيات التي استباحت البلاد بعد العام 2011، وجعلت منها إمارات إسلامية على الضفة الجنوبية للمتوسط، كما سعت إلى فتح خزائن أرضها لفائدة مشروع الإخوان الذي كان يتحرك في اتجاه السيطرة على المنطقة بدعم قوى إقليمية ودولية مؤثرة.
ومن نواة أولى قوامها 300 عسكري، استطاع أن يعيد تأسيس الجيش الوطني، وأن يجعله القوة العسكرية التاسعة أفريقيًّا، والحادية عشرة عربيًّا، والسادسة والسبعين عالميًّا، بقدرات بشرية وعلاقات دولية واسعة، ورصيد شعبي متميز، ونفوذ على أكثر من 90 في المئة من مساحة البلاد.
لكن المكاسب التي تحققت لا تعني الانتهاء من مواجهة التحديات. فأطراف عدة تراهن منذ سنوات على محاولة اختراق المؤسسة العسكرية من الداخل، وهناك قوى تتعمد تأجيل أيّ حل سياسي إلى اللحظة التي تعتقد أن المشير حفتر يمكن أن يتخلى فيها عن قيادة الجيش بسبب التقدم في العمر.
قوى إقليمية ودولية تسعى إلى تحقيق أهداف توسعية في الداخل الليبي، وتعتقد أن الجيش بقيادة حفتر هو الحاجز الذي يحول دون تحقيق تلك الأهداف، وخاصة في منابع الثروة وعلى الحدود الجنوبية.
في مثل هذه الحالة، كان من الطبيعي أن يعتمد على أبنائه في حماية المنجز الذي حققه، وهو يستند إلى خصوصيات ثقافية واجتماعية في إقليم برقة، وإلى توازنات قبلية ومناطقية تمتد إلى مختلف مناطق البلاد. كما أنه ينسجم مع النموذج المعتمد في الدول العربية الأكثر أمنًا واستقرارًا وتنمية ورفاهية، ويقطع مع نموذج الأنظمة الفوضوية في الدول التي طالها خراب باسم الشعارات المستوردة من خارج الحدود.
كان واضحًا أن أغلب من خرجوا منتفضين ضد نظام القذافي قبل 15 عامًا، كانوا يحلمون بنسخة خليجية في بلدهم النفطي. وكانوا يرغبون في أن تكون بنغازي كدبي أو الدوحة أو الرياض.
لم يُطْرَح موضوع النظام السياسي بقدر ما طُرِح موضوع النظام الاقتصادي في دولة طالما شعر مواطنوها بأنهم فقراء في وطن ثري، وأنهم محرومون من ثرواتهم التي كان من المفترض أن توفر لهم حياة مترفة كما هو الحال في دول الخليج.
مثل تلك المشاعر وجدت تفهُّمًا واعيًا وواقعيًّا لدى المشير حفتر الذي بدأ بالفعل في تكريس نموذج تنموي متقدم يمكن مقارنته حاليًّا بدبي في أوائل تسعينات القرن الماضي على أن يتحقق المزيد مع كل يوم جديد.
إن أول ما يلفت الانتباه في الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الوطني الليبي الانتقالي المؤقت في العام 2011 أنه لم يشر إلى طبيعة النظام السياسي المعتمد بعد الإطاحة بالنظام الجماهيري، واكتفى بأن أطلق اسم «دولة ليبيا» على الكيان السياسي القائم، تأثرًا بالنموذج المعتمد في دول الخليج كدولة قطر أو دولة الكويت، وهو ما يعني ترك المجال واسعًا أمام مختلف الاحتمالات، لاسيما أن هناك تجاذبات كانت تفرض نفسها بين الفاعلين الخارجيين الأساسيين آنذاك، وبين أنصار النظام الجمهوري في الداخل والساعين إلى استعادة النظام الملكي أو تشكيل ملامح نظام وراثي بمرجعية دستورية كما كان الوضع قائمًا عند استقلال البلاد في العام 1951.
عرفت خريطة ليبيا تأسيس أول جمهورية في الوطن العربي، وهي الجمهورية الطرابلسية التي تمَّ الاتفاق على إعلانها في جامع المجابرة في مدينة مسلاتة في 16 نوفمبر سنة 1918، وذلك عقب هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الأولى وتوقف الدعم التركي – الألماني للمقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي.
وقد بدأت الفكرة في مدينة مصراتة على إثر اجتماع بين الشيخ سليمان باشا الباروني ورمضان السويحلي وكذلك عبدالنبي بالخير وأحمد المريض. لكن ذلك المشروع استمر لستة أشهر ونصف الشهر فقط، واندثر في 1 يونيو 1919 بإنشاء حكومة الإصلاح الوطني من قبل ملك إيطاليا فيكتور عمانويل الثالث بإصداره مرسومًا يقضي بمنح الجنسية الإيطالية للمتطوعين، وينص على تشكيل حكومة في طرابلس الغرب يرأسها الوالي الإيطالي وبعضوية ثمانية أشخاص من الليبيين المتجنّسين.
ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة المحور، حتى عاد الأمير إدريس السنوسي إلى برقة في يوليو 1944، فاستقبله شعبها استقبالًا حافلاً، ومن هناك أصدر قرارًا بتعيين حكومة تتولى إدارة البلاد، وأصدر دستور برقة الذي يعد وثيقة مهمة من وثائق التاريخ العربي الحديث، وقد كفل ذلك الدستور حرية العقيدة والفكر، والمساواة بين الأهالي وحرية الملكية، واعتبر اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ونصّ الدستور على أن حكومة برقة حكومة دستورية قوامها مجلس نواب منتخب.
وفي العام 1946 اعترفت إيطاليا باستقلال ليبيا، وبحكم محمد إدريس السنوسي لها، وفي فاتح مارس 1949 أعلن الأمير إدريس برقة إمارة مستقلة وبدستور مستقل من جانب واحد بدعم من المملكة المتحدة، لتصبح الدولة المستقلة الثامنة بين البلدان العربية آنذاك.
قامت بريطانيا وفرنسا بإعداد قرار لاستقلال ليبيا في قرار صدر في 21 نوفمبر 1949. لِيُعْلَنَ استقلال المملكة الليبية المتحدة في 24 ديسمبر عام 1951، وبتاريخ 27 ديسمبر، تم تتويج الأمير إدريس ليصبح الملك إدريس الأول. فيما ظلت حدود الإمارة الإدارية هي ذاتها حدود ولاية برقة بعد استقلال ليبيا، مكونة إحدى الولايات الثلاث في المملكة الليبية المتحدة.
رؤية استراتيجية بعيدة المدى
عندما قام عدد من الضباط الوحدويين الأحرار بانقلاب على النظام الملكي في الفاتح من سبتمبر بقيادة العقيد معمر القذافي، تم الإعلان مباشرة عن قيام الجمهورية العربية الليبية، ونص الإعلان الدستوري الأول الصادر في 11 سبتمبر 1969 على أن “ليبيا جمهورية عربية ديمقراطية حرة، السيادة فيها للشعب، وهو جزء من الأمة العربية، وهدفه الوحدة العربية الشاملة، وإقليمها جزء من أفريقيا.”
كما نص على أن “مجلس قيادة الثورة هو أعلى سلطة في الجمهورية العربية الليبية، ويباشر أعمال السيادة العليا والتشريع ووضع السياسة العامة للدولة نيابة عن الشعب، وله بهذه الصفة أن يتخذ كافة التدابير التي يراها ضرورية لحماية الثورة والنظام القائم عليها، وتكون هذه التدابير في صورة إعلانات دستورية أو قوانين أو أوامر أو قرارات، ولا يجوز الطعن في ما يتخذه مجلس قيادة الثورة من تدابير أمام أيّ جهة.ّ
لم تخرج الجمهورية العربية الليبية عن سياقات تلك المرحلة المحكومة بقيادات عسكرية، وإنما تبنت المشروع القومي الناصري وسعت إلى الوحدة العربية مع مصر والسودان وسوريا وتونس والجزائر والمغرب، وطردت القواعد الأجنبية، وأمَّمت النفط، وارتبطت بعلاقات وطيدة مع حركات التحرر في العالم.
وفي الثاني من مارس 1978، أعلن القذافي عن قيام ما أسماه سلطة الشعب، وحل الجمهورية الليبية لتحل محلها أول جماهيرية في التاريخ وفق مرجعيتها النظرية وهي الكتاب الأخضر، وقد تم تعريفها “على أنها النظام الذي يحكم فيه الناس أنفسهم، دون وصاية، عن طريق المؤتمرات الشعبية الأساسية، أي على المستوى الأساسي للمكان سواء كانت المدينة أو القرية أو الحي السكني (الكومونة الجماهيرية).
ويقسّم الناس في كل منطقة إلى مؤتمرات شعبية أساسية (تختار أمانتها لتسيّر المؤتمر الشعبي ولجنتها الشعبية لتنفيذ ما يصدره المؤتمر من قرارات)، وتجتمع المؤتمرات الشعبية سنويًّا في دورة لوضع جدول الأعمال ودورة لمناقشته ودورة لمناقشة القضايا المحلية في إطار المؤتمر الشعبي الأساسي.”
خلال مختلف التجارب السياسية التي مرت بها ليبيا قبل 2011، لم يتم طرح المسألة الديمقراطية بجدية، لاسيما أن البلاد عرفت في مراحل الملكية الدستورية والجمهورية والجماهيرية تجميد العمل الحزبي وقمع المعارضات.
وخلال السنوات الماضية، تبيَّن أن البلاد تواجه خطر الانقسام، وتعاني من التدخلات الأجنبية، ومن حكم الميليشيات، ونهب الثروات.
ويبدو أن المشير حفتر أدرك ذلك جيدًا، واتجه نحو تكريس نظام سياسي واقعي يتماشى مع خصوصيات المرحلة التي تتطلب رَصَّ الصفوف وتوفير أكثر ما يمكن من الانسجام داخل المؤسسة العسكرية وفي إطار السلطة التنفيذية، إلى أن يتم التوصل إلى حلحلة الأزمة وفق مشروع وطني شامل يمكن أن تكون فيه ليبيا جمهورية أو مملكة دستورية بمقومات الأمن والاستقرار والحرية والرفاه، وقبل ذلك السيادة الوطنية على الأرض والقرار والمقدرات.