اخبار الإقليم والعالم
الضربات الجوية الأميركية لن توقف حروب إيران بالوكالة
على الرغم من دقة وضخامة الضربات الأميركية التي استهدفت المواقع النووية الإيرانية، فمن المرجح أن يعيد النظام في طهران بناء قدراته، ويكثّف حروبه بالوكالة، ويبقى ملتزما بطموحاته النووية على المدى الطويل.
وقدّمت الضربات العسكرية الأميركية ضد منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية أواخر يونيو عرضا مذهلا من الكفاءة العسكرية فاجأ إيران والمجتمع الدولي.
وشملت العملية الاستخدام الأوسع حتى الآن لقاذفات الشبح “بي 2 سبيريت” في عملية واحدة، حيث استهدفت مواقع في فوردو ونطنز بقنابل خارقة للتحصينات جي.بي.يو 57 التي تُعرف باسم “قنبلة الذخيرة الضخمة الخارقة”.
وبالإضافة إلى ذلك، أطلقت غواصة أميركية نحو 30 صاروخ توماهوك ضد منشآت بنية تحتية سطحية في أصفهان.
ووفقا لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال دان رازين كاين، فقد شاركت في عملية “مطرقة منتصف الليل” أكثر من 125 طائرة، بما في ذلك 7 قاذفات بي – 2، وعدد من المقاتلات من الجيلين الرابع والخامس، والعشرات من طائرات التزود بالوقود. وقد استُخدم نحو 75 سلاحا دقيق التوجيه، منها 14 قنبلة جي.بي.يو 57 لأول مرة في قتال فعلي.
رغم ضخامة الضربات التي استهدفت المواقع النووية الإيرانية، فمن المرجح أن يعيد النظام في طهران بناء قدراته
إلا أن المدى الحقيقي لتأثير الضربات على الإستراتيجية والسياسة الإيرانية المستقبلية هو موضوع أوسع وأكثر أهمية. فالنُظم السلطوية، التي تستند إلى تصورات أنانية لتاريخها وتوقعات ضيقة حول مصيرها المحتوم، غالبا ما تفكر بعقود أو حتى أجيال.
وبالنسبة لإيران، تُمثّل الولايات المتحدة “الشيطان الأكبر”، وإسرائيل “دمية” لها. وتسعى طهران إلى أن تصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، متجاوزة منافستها السنية، السعودية.
وفي نظر القيادة الإيرانية، فإن امتلاك السلاح النووي سيُضفي الشرعية على هذا الطموح ويشكل رادعا ضد الابتزاز أو الضربة النووية الإسرائيلية.
وإذا ما اقترن هذا السلاح بصواريخ باليستية بعيدة المدى، يمكن أن تمتد مظلة الردع أو التهديد الإيرانية ليس فقط على الشرق الأوسط، بل حتى إلى أجزاء من أوروبا وأميركا الشمالية.
وخاضت إسرائيل حربا استمرت 12 يوما ضد إيران قبل التدخل الأميركي، وقد ألحق الهجوم الإسرائيلي دمارا كبيرا بقدرات إيران الصاروخية، والدفاعات الجوية، والبنية القيادية والسياسية والعسكرية.
ومع ذلك، فإن توقع أن يُغيّر النظام الإيراني موقفه السياسي أو يقلل من طموحه العسكري، أمر غير واقعي، بل يُفترض العكس.
ويبدو أن النظام الديني، وقواته النخبوية، لا يزال يسيطر بقوة على مفاصل الدولة ويمتلك القسوة الكافية لقمع أي معارضة داخلية.
توقع أن يغير النظام الإيراني موقفه السياسي أو يقلل من طموحه العسكري، أمر غير واقعي
وفي المقابل، أخفقت التقديرات الاستخباراتية الأميركية عام 1978 في توقع الثورة الإسلامية التي اندلعت فجأة، وأفضت إلى اقتحام السفارة الأميركية وسقوط الشاه واحتجاز الرهائن. فالهزيمة العسكرية، إذا بلغت حدّ زعزعة ثقة الفاعلين السياسيين المحليين، قد تُضعف الاستقرار السياسي، كما حدث في روسيا بعد الحرب الروسية – اليابانية.
ولا شك أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك هذا الدرس جيدا، مثلما يتذكّر مصير الاتحاد السوفيتي، ولذلك يحرص على تجنّب الهزيمة في أوكرانيا بأي ثمن.
وتواجه القيادة الإيرانية تحديا آخر يتمثل في إعادة تأهيل قواها الوكيلة المتضررة في غزة ولبنان واليمن وأماكن أخرى. ومع سيطرة إسرائيل شبه الكاملة على غزة، يبدو أن عودة حماس إلى قوتها السابقة أمر شبه مستحيل بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023.
وأما حزب الله، الذي كان قوة لا يُستهان بها في 2006، فهو اليوم يجد صعوبة في تنفيذ أكثر من هجمات متقطعة.
وبينما يواصل الحوثيون في اليمن تعهدهم بمواصلة حربهم ضد الملاحة في البحر الأحمر، فإن التعزيزات الأميركية البحرية في المنطقة تُعتبر رسالة رادعة لهم.
ومع ذلك، تُظهر التجربة أن الجماعات غير النظامية قادرة على إعادة بناء نفسها بسرعة تفوق إعادة تسليح الجيوش التقليدية.
ولا تحتاج هذه الجماعات إلى مواجهة مباشرة مع الجيوش النظامية، فهي تفضّل أساليب الحرب غير التقليدية مثل: الهجمات السيبرانية، الهجمات ضد المدنيين، تعطيل الاقتصاد، الطائرات المسيّرة، والتشويش التقني.
وبعيدا عن أي اتفاق تفاوضي جديد، لا ينبغي الافتراض أن إيران لن تعيد برنامجها النووي في الوقت المناسب، ما لم يتم التوصل إلى اتفاق دولي جديد يخضع لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو جهة مماثلة.
وتحتقر إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاتفاق النووي المعروف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة” الذي وُقّع في عهد سلفه بارك أوباما عام 2015، والذي هدف إلى الحد من نشاط إيران النووي.
ومع ذلك، فإن هذا الاتفاق كان سيمنح فترة راحة تقارب عقدا قبل أن تصل إيران إلى مرحلة عتبة التسلّح النووي، كما زعمت الولايات المتحدة ومراقبون آخرون.
وحتى الآن، لا يزال مدى الضرر الذي لحق بمنشآت التخصيب الإيرانية ومرافقها المساندة محل نقاش، حتى داخل الأوساط الاستخباراتية الأميركية وبين الخبراء المستقلين.
وهناك نقاش طويل بين الخبراء حول ما إذا كانت بعض الأهداف شديدة التحصين والعميقة، والتي تُقدّر بالآلاف، يمكن تدميرها حتى باستخدام أقوى الأسلحة النووية الموجودة في الترسانة الأميركية.
ويرى الباحثان ستيفن سيمبالا، ولورانس ج. كورب في تقرير نشرته مجلة ناشيونال أنتريست أن عمليات التفتيش الميدانية الشاملة فقط يمكنها أن تحسم هذا الجدل.
ومنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، دخلت المنطقة في مرحلة من الفراغ الإستراتيجي، حيث تفكك الإطار الدبلوماسي الذي كان يضبط سلوك إيران النووي، في حين لم تنجح سياسة “الضغوط القصوى” التي انتهجتها إدارة ترامب في دفع إيران إلى تقديم تنازلات جوهرية، بل على العكس، توسّعت طهران في برنامجها النووي، وزادت من دعمها لوكلائها في عدة ساحات مشتعلة مثل العراق وسوريا واليمن.
وتاريخيا، أثبتت التجربة أن الحروب التقليدية لا تُقوّض هذه الشبكات بالسهولة المتوقعة. فالجماعات المسلحة غير النظامية، بعكس الجيوش النظامية، تتمتع بمرونة أكبر، وقدرة على إعادة التموضع بسرعة، مستفيدة من الانقسامات الطائفية، والهشاشة السياسية في الدول المضيفة، وغياب البدائل المقنعة.
ومن هنا، فإن تدمير البنية التحتية أو الصاروخية لهذه الجماعات لا يعني نهاية تهديدها، بل قد يدفعها إلى تطوير أدوات أكثر تطورا، مثل الهجمات السيبرانية والطائرات المسيّرة والاختراقات الأمنية.
وفي المقابل، تواجه طهران تحديات داخلية حقيقية، تتراوح بين الأزمة الاقتصادية، وتآكل شرعية النظام، وتوترات اجتماعية متزايدة، خاصة في الأوساط الشبابية والطبقة الوسطى.
وفي ظل هذا المشهد المتداخل، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من الحرب غير المعلنة، حيث لا يُتوقع أن تخضع إيران بسهولة، ولا أن تُغيّر إستراتيجيتها جذريا، بل من المرجّح أن ترد عبر أدواتها غير النظامية، وأن تعمل على إعادة بناء قدراتها النووية تدريجيا، بانتظار فرصة دبلوماسية أو ثغرة سياسية.
وهكذا، فإن المشهد الحالي لا يُنبئ بحسم قريب، بل بالمزيد من التصعيد المتبادل، واستنزاف الأطراف، وسط بيئة إقليمية تتجه نحو المزيد من الفوضى المدارة، والصراعات بالوكالة، والخطوط الحمراء المتنقلة.