اخبار الإقليم والعالم
ضربة إسرائيلية مزدوجة على إيران: عسكرية وعلمية
في واحدة من أكثر الضربات تعقيدًا من حيث البعدين الاستخباراتي والعلمي، شنّت إسرائيل فجر أمس الجمعة هجومًا مركزًا على العاصمة الإيرانية طهران استهدف نخبة من القادة العسكريين والعلماء النوويين، في عملية تُعدّ من حيث النوع والدقة تحوّلًا مفصليًا في قواعد الاشتباك غير المعلنة بين الجانبين.
ولم تقتصر الضربة على تصفية شخصيات بارزة في قيادة الحرس الثوري، بل امتدت إلى بنية البرنامج النووي الإيراني ذاته، ما أعاد إلى الواجهة مجددًا تساؤلات حادة حول فعالية الردع الإيراني، ومدى اختراق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية للمفاصل العليا في منظومة القرار الأمني والعسكري في طهران.
القادة العسكريون
في قلب هذه العملية المعقدة سقط اللواء حسين سلامي، القائد السابق للحرس الثوري، وأحد أبرز حلفاء المرشد الأعلى علي خامنئي.
وبُنيت صورته في الداخل الإيراني كصوت صلب في مواجهة الغرب وإسرائيل، حيث اشتهر بخطاباته النارية ومقولته الأخيرة التي حذر فيها من فتح “أبواب جهنم” على من يهاجم بلاده. لكنّ اغتياله، بهذه السرعة والدقة، كشف هشاشة المنظومة التي خدمها لعقود، وأحدث فراغًا مقلقًا في صفوف الحرس، الذراع الأيديولوجية للنظام.
ووُلد حسين سلامي عام 1960 في وسط إيران. وكان القائد العسكري ذو البنية الجسدية الضخمة والصوت الجهوري، يظهر بانتظام في الاحتفالات وعلى شاشات التلفزيون ملقيا خطابات نارية، ردد خلالها الهجمات الكلامية اللاذعة التي يطلقها المسؤولون الإيرانيون بانتظام ضد إسرائيل، العدو الإقليمي اللدود للجمهورية الإسلامية.
وبث التلفزيون الرسمي الإيراني لقطات لسلامي وهو يصدر عبر الهاتف من مركز قيادة عسكري، الأوامر لقوات الحرس الثوري بشن عملية ضد إسرائيل خلال الهجوم الإيراني بالطائرات المسيرة والصواريخ في منتصف أبريل 2024، والذي كان الأول من نوعه.
الضربة الإسرائيلية تعكس تحوّلًا نوعيًا في طبيعة المواجهة مع إيران، من سياسة الاحتواء والتخريب إلى إستراتيجية الاستهداف المباشر للنخبة القيادية والعلمية
ودعا سلامي في تصريحات أدلى بها العام 2018 رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى أن “يتدرب على السباحة في البحر الأبيض المتوسط” لأنه قد يُجبر على الفرار من بلاده.
وسلامي هو من الجيل الأول للحرس الثوري الذي أنشئ في مطلع الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) بعيد انتصار الثورة، وأمضى معظم مسيرته في صفوفه.
وكان حسين سلامي الذي فُرضت عليه عقوبات أميركية، قائدا سابقا لسلاح الجو التابع للحرس الثوري.
وبعدما شغل منصب نائب القائد لتسع سنوات، عُيّن حسين سلامي قائدا للحرس الثوري الإيراني في أبريل 2019 خلفا
لمحمد علي جعفري، في مرحلة تغييرات كبيرة أجرتها السلطات الإيرانية في قيادة المنظمة.
ونوه المرشد الأعلى للجمهورية آية الله علي خامنئي في بيان تعيين سلامي قائدا للحرس، بـ”جدارتكم وخبراتكم القيمة في إدارة المؤسسات العليا ومختلف المسؤوليات في مؤسسات الحرس الثورية والجهادية والشعبية،” وأوكل إليه “رفع مستوى القدرات الشاملة والاستعدادات في كافة الأقسام.”
ومنح هذا الدور سلامي مقعدا في المجلس الأعلى للأمن القومي الذي ينعقد برئاسة رئيس الجمهورية.
وتتمثل وظيفة هذه الهيئة في رفع التقارير مباشرةً إلى المرشد الأعلى في الشؤون العسكرية والأمنية والسياسة الخارجية.
وأُنشئ الحرس الثوري عام 1979 بعيد انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، وهو بإمرة خامنئي، القائد الأعلى للقوات المسلحة في إيران.
ويضم الحرس بحسب المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية حوالي 125 ألف عنصر. ولا تتوفر أرقام رسمية عن عددهم.
ويعد الحرس من القوات المسلحة الإيرانية، لكنه يتمتع بقوات ذاتية متخصصة برية وبحرية وجو-فضائية. وعلى عكس الجيش، فإن الدور الأساسي المنوط بالحرس ليس حماية الأراضي الإيرانية، بل حماية “الثورة ومكتسباتها”، وفق الدستور.
ومن جهة أخرى، مثّل مقتل اللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة، خسارة إستراتيجية عسكرية مباشرة.
وكان باقري أحد أكثر العقول العسكرية المؤثرة في العقيدة القتالية الإيرانية، وصاحب رؤية تعتمد على التصعيد الوقائي وإعادة تعريف الحدود الجغرافية للردع.
وكان محمد باقري عسكريا مخضرما تدرج في الهيكلية القيادية الإيرانية، وصولا الى رئاسة هيئة الأركان المشتركة التي تشرف على كل أفرع القوات المسلحة.
وعيّنه آية الله علي خامنئي، مرشد الجمهورية الإسلامية والقائد الأعلى لقواتها المسلحة، رئيسا لهيئة الأركان المشتركة في العام 2016، ليتبوأ بذلك المنصب العسكري الأعلى في البلاد.
وولد محمد حسين أفشردي المعروف بمحمد باقري، في يونيو 1960، وكان بوجهه النحيل ونظارتيه وزيه العسكري، دائم الحضور في المناسبات العسكرية، ومنها الكشف عن قواعد تحت الأرض.
وفي منصبه كرئيس لهيئة الأركان، أمسك اللواء باقري بمفاتيح قيادة الحرس الثوري والجيش وقوات الشرطة، بعدما تدرج في الهيكلية العسكرية منذ الحرب العراقية الإيرانية خلال الثمانينات.
وفي عهده، عززت إيران من قدراتها الصاروخية وبرنامج الصواريخ البالستية التي بدأ الحرس الثوري تطويره منذ أعوام طويلة، إضافة الى برنامج الطائرات المسيّرة الذي أصبح من أهم برامج المسيّرات في العالم.
والعام الماضي، استخدمت إيران المئات من هذه الصواريخ والمسيّرات في استهداف إسرائيل للمرة الأولى بشكل مباشر في أبريل 2024، وذلك ردا على ضربة استهدفت قنصليتها في دمشق وأودت بسبعة ضباط من الحرس الثوري. وقال باقري في حينه إن “على العدو
الصهيوني أن يدرك أنه يقترب من نهاية عمره البائس،” مشددا على أن الدولة العبرية هي “ورم سرطاني” في المنطقة.
العملية كشفت هشاشة أمنية عميقة وطرحت تساؤلات حول جدوى منظومة الردع التي لطالما تباهت بها طهران
وكان باقري أكد في العام 2022 أن إيران باتت تعتمد الاكتفاء الذاتي في مجال “التسليح والتجهيز العسكري،” مشيرا الى أن الجمهورية الإسلامية قد تصبح من كبار مصدّري السلاح في العالم في حال رُفعت العقوبات عنها.
وفي أكتوبر 2024، كان باقري من بين ثلاثة ضباط كبار في إيران فرض عليهم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات على خلفية اتهام طهران بتزويد روسيا مسيّرات للاستخدام في الحرب التي تخوضها ضد أوكرانيا.
وسخر باقري من العقوبات بالقول إن في إمكان المسؤولين الأوروبيين “أن يحددوا ويصادروا كل الممتلكات والأصول للواء محمد حسين باقري في المصارف حول العالم، واستخدامها لشراء الفحم للمواطنين الأوروبيين الذين ينتظرهم شتاء صعب،” وذلك في رسالة نشرتها وسائل إعلام محلية في طهران.
واعتبر باقري أن الاتحاد الأوروبي ارتكب “خطأ” في فرض عقوبات عليه، مماثلا لما ارتكبته الولايات المتحدة بفرض عقوبات مشابهة بحقه في 2019.
وعيّن خامنئي باقري رئيسا للأركان في عام 2016 خلفا للواء حسن فيروز آبادي الذي شغل المنصب قرابة 26 سنة.
وبالمثل استهدف أمير علي حاجي زادة قائد القوات الجو-فضائية التابعة للحرس الثوري. وحددته إسرائيل باعتباره الشخصية المحورية المسؤولة عن توجيه الهجمات الجوية عليها.
وفي عام 2020، تحمل حاجي زادة المسؤولية عن إسقاط طائرة ركاب أوكرانية، والذي حدث بعد فترة وجيزة من شن إيران ضربات صاروخية على أهداف أميركية في العراق ردا على ضربة أميركية بطائرات مسيرة قتلت قاسم سليماني القائد السابق بالحرس الثوري.
ولم يسلم غلام علي رشيد الذي يشغل منصب رئيس مقر خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري من الضربات الإسرائيلية.وقد شغل سابقا منصب نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية وحارب في صفوف إيران خلال حرب الثمانينات مع العراق.
علماء الذرة
الضربة لم تكن ميدانية فحسب، بل استهدفت أيضًا الأبعاد الإستراتيجية والعلمية للمشروع النووي الإيراني. فقد طالت الغارات عددًا من العلماء البارزين، من بينهم فريدون عباسي دوائي، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية، وأحد أبرز الأصوات المتشددة داخل البرلمان في الأعوام الأخيرة، إضافة إلى محمد مهدي طهرانجي، رئيس جامعة “آزاد” المعروف بخلفيته النووية، إلى جانب أربعة علماء آخرين أقل شهرة ولكن معروفين بدورهم في أبحاث مرتبطة بالتخصيب والتقنيات الحساسة.
وتشكل هذه الاغتيالات ضربة مباشرة للكوادر البشرية التي تقف خلف الطموحات النووية الإيرانية، في وقت تسعى فيه طهران لإعادة بناء البرنامج عقب الضغوط الدولية والعقوبات المعقدة.
ويشير اغتيال هؤلاء القادة والعلماء في وقت متزامن إلى اختراق استخباراتي بالغ العمق، ما يطرح أسئلة حول أمن المنشآت الإيرانية، ونقاط ضعفها التقنية والتنظيمية، وكذلك حول قدرة النظام على منع تكرار مثل هذه العمليات مستقبلًا. كما أن تركيز الضربة على شخصيات ترتبط مباشرة بالردع العسكري التقليدي والنووي، يحمل رسالة مزدوجة: استنزاف قدرات إيران على التصعيد، وشل بنيتها الفكرية والتنفيذية التي تُخطط لخيارات “الرد الكبير” الذي توعّدت به مرارًا.
وبينما لم يصدر ردّ عسكري إيراني مباشر حتى كتابة هذا التقرير، تتكثف المؤشرات على وجود حالة ارتباك مؤقت في منظومة القيادة والسيطرة الإيرانية. فالضربة لم تستهدف مواقع أو أرتالًا، بل رؤوسًا عليا، ما يجعل الردّ المقابل ليس فقط مطلوبًا سياسيًا، بل معقدًا من الناحية العملياتية، في ظل فقدان من يُفترض أنهم أصحاب القرار والخطط البديلة.
وتبدو خيارات طهران محدودة وغير متكافئة. فبُعْدُ الضربة يعيد سيناريو مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني عام 2020، لكن هذه المرة في العمق الإيراني، لا في العراق أو ساحة خارجية، ما يُحرج المؤسسة العسكرية ويضعها أمام اختبار جديد لقدرتها على استعادة التوازن.
ويشير مراقبون إلى أن تصعيدًا انفعاليًا من جانب إيران قد يجرها إلى مواجهة أوسع لا تبدو مستعدة لها الآن، فيما سيكون الصمت أو الرد الرمزي بمثابة تأكيد إضافي على اختلال ميزان الردع الذي لطالما تفاخر به قادة طهران.
واللافت أن الأسماء المستهدفة مثل أمير علي حاجي زادة، قائد القوات الجو-فضائية، وغلام علي رشيد، رئيس مقر “خاتم الأنبياء”، يمثلون نخبًا مغلقة يُفترض أنها تخضع لأعلى درجات الحماية، ما يجعل تصفيتهم عملية محكمة في التوقيت والتنفيذ.
وهذه الهشاشة الأمنية، رغم الصورة التي تحرص طهران على تسويقها، تشي بأن أذرع إسرائيل الاستخباراتية والعملياتية باتت على تماس مباشر مع صميم النظام الدفاعي الإيراني.
وفي المجمل، تعكس الضربة الإسرائيلية تحوّلًا نوعيًا في طبيعة المواجهة مع إيران، من سياسة الاحتواء والتخريب إلى إستراتيجية الاستهداف المباشر للنخبة القيادية والعلمية، في رسالة واضحة بأن مشروع إيران النووي والصاروخي لم يعد يُواجه فقط دبلوماسيًا، بل عسكريًا وميدانيًا.