اخبار الإقليم والعالم
الإستراتيجية الكبرى لإيران: الحفاظ على المكاسب بمرونة سياسية
كلما اتسعت الفجوة في تفسير ما يحدث داخل إيران بين مراكز الدراسات ومراكز القرار السياسي في الغرب، تتم الاستعانة بولي نصر! إنه نتاج تربية شيعية وإيراني الولاء وأميركي الحجة والتحليل! لذلك حظي كتابه الجديد الذي صدر بعنوان “الإستراتيجية الكبرى لإيران” باهتمام منقطع النظير على الرغم من مرور بضعة أسابيع على خروجه من المطبعة. لماذا؟ ليس لأنه يقدم سردا مشوقا لما حدث وسيحدث من سيناريوهات في إيران، بل يروي قصة مُقنعة حول دوافع صنع السياسات الإيرانية، وفي وقتٍ تتسارع فيه وتيرة تبدل القوى في الشرق الأوسط، يُعدّ فهم طريقة تفكير إيران كقوة إقليمية ثيوقراطية أمرًا بالغ الأهمية.
ومع أن الكتاب لا يُقدّم إجابات ينتظرها معدو تقارير وأخبار القنوات الفضائية، لكنه من خلال تتبع تاريخ عمل الأمن القومي في إيران، قد نتمكن كقراء ومتابعين وسياسيين، كلٌّ على حدة، من فهم أفضل لكيفية تطور الأمور في إيران.
ولي نصر هو ابن رجل دين إيراني ولد في طهران عام 1960 ومنذ أن كان عمره 16 سنة عاش في المملكة المتحدة لإكمال دراسته الإعدادية لكنه سرعان ما هاجر إلى الولايات المتحدة بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. حصل على درجة البكالوريوس من جامعة تافتس في العلاقات الدولية بامتياز. كما حصل على درجة الماجستير في الاقتصاد الدولي ودراسات الشرق الأوسط من كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية عام 1984، ثم حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية العلوم الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 1991.
◙ الكتاب لا يُقدّم إجابات ينتظرها معدو تقارير وأخبار القنوات الفضائية، لكن قد نتمكن كقراء ومتابعين وسياسيين، من فهم أفضل لكيفية تطور الأمور في إيران
فهمه المشترك لإيران بوصفه إيرانيا أميركيا جعله أحد أعضاء مجلس سياسة الشؤون الخارجية في وزارة الخارجية الأميركية، كما عمل كمستشار أول للممثل الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان ريتشارد هولبروك، وهو عضو دائم في مجلس العلاقات الخارجية.
وجلب الانتباه إليه في كتابه السابق “إحياء الشيعة” الذي صنفته صحيفة نيويورك تايمز الأكثر مبيعًا. واليوم يأتي كتابه الجديد “الإستراتيجية الكبرى لإيران” كسرد مشوق يقلب الصور التبسيطية لإيران كدولة منبوذة ثيوقراطية، ويكشف كيف أن تحركاتها الإستراتيجية على المسرح العالمي مدفوعة بتهديدين شاملين: العدوان الخارجي والانحلال الداخلي.
وتمثل إيران أحد أهم تحديات السياسة الخارجية للولايات المتحدة والغرب، ومع ذلك لا يُعرف سوى القليل جدًا عن أهداف البلاد الحقيقية.
ويدرس ولي نصر التاريخ السياسي لإيران بطرق جديدة لشرح أفعالها وطموحاتها على المسرح العالمي، موضحًا كيف تسعى إيران اليوم، وراء قشرة الثيوقراطية والأيديولوجيا الإسلامية، إلى إستراتيجية كبرى تهدف إلى تأمين البلاد داخليًا وتأكيد مكانتها في المنطقة والعالم، بالاستعانة بالمذكرات والتاريخ الشفوي والمقابلات المتعمقة الأصلية مع صناع القرار الإيرانيين. ويسلط الضوء على الحقائق والأحداث في التاريخ السياسي لإيران التي تم تجاهلها حتى الآن.
ويتتبع الكاتب جذور الرؤية الإستراتيجية الإيرانية إلى تجاربها على مدى العقود الأربعة الماضية من الحرب مع العراق في ثمانينات القرن الماضي، وما تلاها من احتواء أميركي لإيران، وغزو العراق عام 2003، ودورها في تسهيل احتلال بغداد للانتقام من هزيمتها في الحرب العراقية – الإيرانية. ويكشف المؤلف كيف شكّلت هذه التجارب رؤية جيوسياسية مدفوعة بخوف متفشٍّ من أميركا وخططها في الشرق الأوسط.
ويتحدى كتاب “الإستراتيجية الكبرى لإيران” وفق بيتر فرانكوبان أستاذ التاريخ العالمي في جامعة أكسفورد، فكرة أن السياسة الخارجية الإيرانية تعكس ببساطة قيمها الثورية أو حكومتها الثيوقراطية، ويقدم رؤى جديدة قيّمة حول ما تريده إيران وأسبابه، موضحًا مقاومة البلاد للولايات المتحدة، وطموحاتها النووية، وسعيها إلى النفوذ وكسب الوكلاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
فهم غربي قاصر لإيران
يفتتح ولي نصر، الأكاديمي الذي عمل مستشارًا لصانعي السياسات الأميركيين، كتابه “إستراتيجية إيران الكبرى” بادعاء صارخ، يكمن في أن فهم الغرب لنهج إيران “قاصرٌ للغاية، وقد عفا عليه الزمن بشكل خطير. لا يزال الغرب ينظر إلى إيران من منظور ثورة 1979، والدور المحوري الذي لعبه رجال الدين فيها.”
ومهما نظرنا إلى الأمر، فإن سلسلة الأحداث المروعة التي وقعت في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 تُعيد تشكيل الشرق الأوسط. وتُمثل إيران جزءًا أساسيًا من أحجية معقدة تشهد أكبر عملية إعادة تشكيل لها منذ عقود.
بيتر فرانكوبان: كتاب "الإستراتيجية الكبرى لإيران" يتحدى فكرة أن السياسة الخارجية الإيرانية تعكس ببساطة قيمها الثورية أو حكومتها الثيوقراطية، ويقدم رؤى جديدة قيّمة حول ما تريده إيران وأسبابه
◙ يكشف ولي نصر في كتابه عن رؤية جيوسياسية مدفوعة بخوف متفشٍّ في إيران بعد احتلال العراق من أميركا وخططها في الشرق الأوسط
ومن المهم على أي حال فهم الفكر والتوجهات الإيرانية، في وقتٍ تجري فيه محادثات حساسة حول نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة، وتدرس فيه إسرائيل خياراتها، ويواجه فيه المرشد الإيراني علي خامنئي وقادة الحرس الثوري تحديات تتعلق بتغير السياسات والحريات الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي.
ويُجادل نصر بأن سياسات طهران الخارجية والأمنية، بعيدًا عن كونها مدفوعة بأيديولوجيا أو حماسة دينية، لها جذور عميقة. وكما قال مسؤول إيراني كبير لهنري كيسنجر قبل عشر سنوات، فإن هذه السياسات “مدروسة وعملية”. الفكرة الرئيسية هي ما يصفه المؤلف بـ”إستراتيجية مقاومة كبرى” يُركز فيها منطق طهران وأهدافها وتوقعاتها على الصمود أمام أميركا واستنزافها.
ويقول المؤلف إن إيران لم تكن مهتمة بتصدير الثورة، بل كانت مهتمة بـ”رؤية مشتركة” لعالم شيعي يعارض “الهيمنة الأميركية”. وهنا علينا استعادة إستراتيجية “قم أم القرى” التي مهد لها علي لاريجاني وصارت تدرس كمنهج في المعاهد الأمنية والعسكرية الإيرانية، وتتلخص في نقل مركز العالم الإسلامي من مكة المكرمة إلى مدينة قم.
وبالنسبة إلى نصر تُعدّ الحرب بين إيران والعراق (1980 – 1988) اللحظة الحاسمة في تاريخ إيران الحديث. قُتل مئات الآلاف، وشُرد الملايين في صراعٍ كلّف مئات المليارات، واستهلك بحلول عام 1988 ثلثي دخل البلاد.
وليس من المستغرب أن المؤسسات المشاركة في التخطيط للحرب وفرضها على العراق وخوضها بذريعة “تحرير القدس يبدأ من كربلاء” أصبحت العمود الفقري للدولة الإيرانية. ولم يكن أقل أهميةً من ذلك الشعور بالصدمة الوطنية وظهور سردية “الدفاع المقدس” التي تضمنت إنشاء مجموعة من التحالفات والميليشيات التي تمارس من خلالها إيران نفوذها وتتحدى النظام الإقليمي وتشكيل ما يسمى بالهلال الشيعي الذي يمتد من إيران حتى ضفاف البحر المتوسط.
ومن هذا المنظور يُشير إلى أن القيادة الإيرانية لم تنظر قط إلى الأسلحة النووية كغاية في حد ذاتها، بل كوسيلة لضمان الردع التكنولوجي والنفوذ الإستراتيجي. وكان الحفاظ على الغموض والنفوذ بالغ الأهمية، إلى درجة أن القيادة وافقت عام 2015 على خطة العمل الشاملة المشتركة.
ويكتب ولي نصر أن الاتفاق “حدّ من برنامج الصواريخ الإيراني، لكنه لم يُلغِه” مقابل تخفيف العقوبات. وقد مكّن هذا إيران من الحفاظ على مكاسبها الإستراتيجية مع تخفيف الضغوط الاقتصادية. إلا أنه لم يكن تخليًا عن المقاومة.
انتفاضة المرأة، الحياة، الحرية
كان الأمر مشابهًا لاحتجاجات “المرأة، الحياة، الحرية” واسعة النطاق عام 2022 التي أعقبت وفاة مهسا أميني، البالغة من العمر 22 عامًا، والتي أصيبت بجروح بالغة في الرأس بعد احتجازها من قبل شرطة الآداب.
وفي الغرب اعتُبرت انتفاضة الشباب في إيران دليلاً على أن عزلة طهران تُجدي نفعًا وستُجبر القيادة على تخفيف قبضتها. بيد أن ولي نصر يرى أن خامنئي توصل إلى استنتاج معاكس: أظهرت الاحتجاجات والقمع الذي تلاها أن إيران “تنتصر، وتقترب من أهدافها.”
يكشف ولي نصر في كتابه عن رؤية جيوسياسية مدفوعة بخوف متفشٍّ في إيران بعد احتلال العراق من أميركا وخططها في الشرق الأوسط
◙ بيتر فرانكوبان: يتحدى كتاب "الإستراتيجية الكبرى لإيران" فكرة أن السياسة الخارجية الإيرانية تعكس ببساطة قيمها الثورية أو حكومتها الثيوقراطية، ويقدم رؤى جديدة قيّمة حول ما تريده إيران وأسبابه
ويقول نصر إن المرونة التكتيكية هي السمة المميزة للإستراتيجية الإيرانية. لقد أثبتت طهران براعتها في السعي وراء الانفتاح الدبلوماسي، والتقارب الإقليمي، واستغلال الفرص الواعدة، بالإضافة إلى ضبط النفس المدروس: جميعها أدوات تُعزز عقلية الحصار الراسخة. وبالتالي، فإن المصالحة المفاجئة بين إيران والسعودية في عام 2023 لا تُقدم على أنها تحول إستراتيجي، بل جهد مدروس لكسب مساحة للتنفس دون التخلي عن منطق المقاومة وسياسة الهيمنة على المنطقة عبر أذرعها من الميليشيات. وبالمثل، تُصوَّر العلاقات المتنامية مع روسيا والصين على أنها تحوطات براغماتية ضد الضغوط الغربية، وليست إعادة تنظيم أيديولوجي.
ويضع ولي نصر، علي خامنئي، في موقع المهندس والمسؤول الرئيسي عن إستراتيجية إيران الكبرى، التي لا تقتصر رؤيتها للعالم على البعد السياسي فحسب، بل تشمل أيضًا البعد الطائفي. ووفقًا للمؤلف، يرى خامنئي إيران نموذجًا يُحتذى به في دول الجنوب العالمي، وحصنًا منيعًا ضد التعديات الغربية. وتتحدث وثيقة إستراتيجية طويلة المدى، بعنوان “رؤية 2025″، عن جعل إيران “القوة السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية الرائدة في غرب آسيا.”
ويبدو هذا متفائلاً أكثر مما ينبغي في الوقت الراهن بعد انكسار مشروع إيران في سوريا ولبنان وغزة. ومع ذلك وفق بيتر فرانكوبان، فهو يعكس طموح طهران، وشعورها بمصيرها، ونظرتها إلى الماضي، حيث تُعدّ التواريخ الفارسية والشيعية محورية إقليميا. ومن المهم عدم الاستهانة بمهارات قيادة عاشت هزيمة الحرب مع العراق وتجرعت السم مع الخميني وخاضت ثلاث حروب باردة لما يقرب من خمسين عاماً مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، في الوقت الذي ترزح فيه تحت عقوبات دولية شديدة، وتواجه اغتيال ضباط عسكريين بارزين أبرزهم الجنرال قاسم سليماني زعيم فيلق القدس عام 2020، وعلماء، وشخصيات مؤثرة.
عين على مجتبى
يُشير ولي نصر في متن كتابه، بشكلٍ مُثير للاهتمام، إلى أن مجتبى، الابن الثاني لخامنئي، هو الشخص الذي يجب مُتابعته. ,ويرتبط مجتبى ارتباطًا وثيقًا، ليس فقط من خلال الروابط العائلية، بل أيضًا من خلال خدمته العسكرية في كتيبة حبيب بن مظاهر الأسدي “أحد قادة جيش الحسين بن علي في معركة كربلاء” النخبوية. هذه الروابط وحدها تُمثل دليلًا قويًا على ذلك؛ فحقيقة أن الكتيبة ومجتبى قاتلا بشكلٍ بارز خلال الحرب مع العراق هي الأهم.
وفي النهاية يمكن أن نشارك مؤلف كتاب “الإستراتيجية الكبرى لإيران” ولي نصر حزمة أسئلة من دون أن ننتظر الإجابات السريعة، بقدر ما يشغلنا الترقب وما ينتظر المنطقة في الأشهر والسنوات القادمة من تداعيات تتجاوز بكثير أروقة السلطة في طهران والحلقة المقربة من المرشد علي خامنئي.
فكل شيء يتوقف الآن على ما إذا كانت إيران تدرك ضرورة تطويعها للثعلب، إذا أرادت النجاة من الظروف القادمة.