ثقافة وفنون

هذا الجسد لي.. مواجهة شاعرية جريئة للقمع والتسلّط

وكالة أنباء حضرموت

شهدت القصة القصيرة في دولة البحرين، منذ بدايات القرن العشرين، تحولات نوعية تواكبت مع التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شهدتها البلاد. وقد ظهر هذا الجنس الأدبي كأداة فاعلة في التعبير عن هموم الإنسان البحريني، حيث عبّرت القصص المبكرة عن ملامح الحياة اليومية، وتطورت لاحقا لتلامس قضايا أعمق تتصل بالهوية، والسلطة، والتحولات الاجتماعية، والبحث عن الذات. ومع انفتاح البحرين على محيطها العربي، تأثرت القصة القصيرة بمدارس الحداثة العربية، لتنتقل من الحكاية المباشرة إلى سرد أكثر تعقيدا وتداخلا، يزاوج بين الواقعي والرمزي، وبين الحلم واليقظة.

وسط هذه الديناميكية، برز القاص والروائي الراحل عبدالله خليفة (1948 – 2014) كأحد أبرز المؤسسين لهذا الفن في الخليج العربي. فهو كاتب سردي بامتياز ومثقف عضوي ارتبط مشروعه الأدبي والفكري بتجربة السجن والنفي والنضال السياسي. عُرف بثقافته الموسوعية، واطلاعه الواسع على الأدب العربي والعالمي، وبتوظيفه للفكر التنويري والرؤية النقدية في أعماله الإبداعية.

الجسد والشعرية

تميّز عبدالله خليفة بتعدد أدواته السردية، حيث كتب القصة القصيرة، والرواية، والمقالة الفكرية، والدراسة النقدية. وقد اتخذ من الكتابة ساحة مقاومة، ومن الأدب وسيلة لكشف العنف الرمزي والمادي الذي تمارسه السلطة، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية. ترك وراءه إرثا أدبيا كثيفا يتوزع على مجموعات قصصية وروايات تُعدّ من علامات السرد الخليجي الحديث، ويظل صوته حيويا في إعادة تأمل علاقة الكاتب العربي بذاته ومجتمعه وتاريخه.

تتناول قصة “هذا الجسد لي” لعبدالله خليفة تجربة فتى بحريني مع الجسد بوصفه ساحة قهر وصراع، تبدأ بطقس الختان القسري الذي يُنتزع فيه جزء من جسده، وتتوالى الانتهاكات بين تحرش واغتصاب وسجن. تُروى القصة بأسلوب التداعي الحر، وتغوص في الذاكرة واللاوعي، كاشفة عن تمزق الهوية الجنسية والنفسية تحت وطأة الأبوة، والدين، والمؤسسة العقابية. يتحول الجسد من مساحة مُنتهكة إلى فضاء شاسع للرفض والاستعادة الرمزية، في سردية مكثفة تمزج الشعرية بالوجع، وتعلن تمرد الذات على أنساق التسلط والوصاية.

تشتغل قصة “هذا الجسد لي”على ثيمات الجسد، الجنس، القمع، الهوية، والسلطة، وتُعيد صياغتها بأسلوب بالغ الخصوصية والجرأة. لم يتعامل خليفة مع الجسد كوعاء للرغبة أو رمز للهامش، لقد تمكن من جعله ميدانا مركزيا للتمزق والوعي، حيث يبدأ الجرح بطقس الختان، ويمتد عبر التحرش والاغتصاب والسجن، في سلسلة من الانتهاكات التي تُمارس على الجسد والروح معا.

تختلف المعالجة هنا عن أغلب الكتابات الخليجية التي تتردد أو تخضع للمواربات عند مقاربة الجسد والجنس، فخليفة ينتهج أسلوب التداعي الحر، ويغوص في الداخل النفسي واللاوعي دون أن يتورط في الإغراء أو المباشرة. تتقاطع هذه الثيمات مع نقد اجتماعي وديني وسياسي عميق، يفضح أنظمة القهر الطبقي والأبوي، ويكسر التابوهات دون ادعاء البطولة أو الإثارة. بذلك، يُقدّم عبدالله خليفة نموذجا قصصيا مغايرا، يمزج بين الشعرية والفلسفة والسياسة، وينسج تجربة قصصية متجاوزة للسائد والمألوف خليجيا.

في مفتتح قصة “هذا الجسد لي” يختار خليفة لحظة الختان ليس بوصفها طقسا مفرحا كما تصوره المخيلة الشعبية، بل بوصفها لحظة عنف تأسيسي، بداية اقتلاع وإخضاع، وتدشين لمسار الألم. يأتي الأب، يحمل الصبي، يعِده بالحلوى، ثم يُسلّمه للختان، فتبدأ رحلة الدم والتشظي. لسنا مع سرد زمني تقليدي، لكننا نغوص مع انسياب داخلي متوتر، تتداخل فيه الذكرى بالحلم، والخوف بالرغبة، والشهوة بالعار. الطفل لا يمتلك جسده، بل يُسلب منه مرارا: في الطفولة، في حفلات الزواج، في السجن، في كل موضع تعيد فيه السلطة – أكانت أبوية أم سياسية أم دينية – تعريف الجسد باعتباره ملكا للآخر.

لكن القصة لم تنغلق على هذا الألم وحده، فالنهاية تنفتح على مشهد رمزي: بوابة تُفتح، جسد يتحرك، صرخة تعلن التملّك “أنا حر”، وكأن رحلة الوجع التي عبرت اللاوعي والكوابيس والجراح قد آلت إلى نوع من المصالحة مع الجسد، أو على الأقل إلى لحظة وعي دامية بضرورة استعادته. وهنا تظهر عبقرية عبدالله خليفة: لم يصنع خاتمة مغلقة، ولا انفراجا تقليديا، الأكثر قوة هنا هو السؤال الذي يُلقى علينا: هل نمتلك أجسادنا؟ هل نملك حكايتنا؟ وهل يمكن للكتابة أن تكون وسيلة للنجاة، أو لفهم ذلك الخراب الكامن في الذاكرة؟”

المعالجة تختلف هنا عن أغلب الكتابات الخليجية التي تتردد أو تخضع للمواربات عند مقاربة الجسد والجنس

عبدالله خليفة، في هذه القصة، لم يكتب عن الجسد، بل كتب بالجسد، جعل من كل جملة امتدادا لحساسية لحمية مجروحة، ومن كل صورة عصبا مكشوفا. المتأمل لهذه القصة القصيرة لا يجدها بالمعنى التقني وحده، بل تجربة وجودية مكتنزة، تثبت أن فن القصة القصيرة كانت  لدى خليفة بمثابة مقاومة سردية، انخراط صادق في الذاكرة، وصرخة ضد سلطة تُريد للجسد أن يصمت.

من أبرز ملامح قصة “هذا الجسد لي” تلك اللغة المتمردة على السرد الخطي، والمرتبطة بأسلوب التداعي الحر، حيث تتداخل الأزمنة، وتتكسر البُنى التقليدية للسرد لصالح حركة داخلية عميقة، تحاكي تدفق الذاكرة وتشتت الإدراك. لا يمنحنا خليفة حكاية جاهزة أو حبكة نمطية، لكنه يسلّمنا صوت الشخصية، بنبضها، وارتباكها، وهذيانها، لنعيش داخل وعيها، أو بالأحرى داخل تفكك هذا الوعي. ومن هنا، يبدو وكأنه يتبنى، دون تصريح، ما يُشبه وجهة النظر الذاتية الحرة كما عرّفها المخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني في أفلامه الشعرية، حيث لا تكون الكاميرا عين الراوي أو المخرج، بل تصبح امتدادا لمشاعر الشخصية ومخاوفها وارتباكها.

ما يصنعه عبدالله خليفة هو شعرية سردية – لا شاعرية لفظية – شعرية تنبع من الإيقاع الداخلي للنص، من القطع، من الصور المتضادة، من الضبابية، من تداخل الجسد واللغة. اللغة هنا لا تُجمّل ولا تُزيّن، بل تفتح الجرح، وتضعنا في مواجهة عارية مع الألم، تماما كما تفعل السينما الشعرية حين تجعل من الصورة امتدادا للذات وليس للحدث.

هو لم يكتب بـ”السجع”ولا بالجناس، بل كتب بلغة مشروخة، مكهربة، لغة لا تستقر، لأنها تعبّر عن ذات لا تستقر. فكل جملة تتأرجح بين اعتراف وتخييل، بين ذاكرة وجنون، بين رغبة وكراهية. هنا تتجلّى عبقريته: أن يخلق من الحطام إيقاعا، ومن التفكك شعريّة، ومن التداعي سردا مضادا، يقاوم كلا من السلطة ومن الأدب المهذّب في آن.

سردية سينمائية

في قصة “هذا الجسد لي”، لا تمثل تجربة السجن مجرد احتجاز مادي خلف جدران وأسوار، بل نجحت بأنها صوَّرت أقصى تجليات القهر الروحي، حيث يتحول الجسد إلى لغة تفضح انتهاك الكرامة والهوية. فالجدران لم تكن الحاجز الحقيقي، بل ما يُمارَس خلفها من سلطة سادية، جسدية ورمزية، على السجين؛ يُغتصب الجسد وتُهشم الروح، ليس فقط من قِبل السجان، بل أيضا من قِبل زملاء المساجين الذين يُعاد إنتاج العنف فيهم.

تكشف القصة أقنعة الرفض، تلك التي تتخفى خلف الدين، فالرجل “ذو اللحية الكثة” ليس شيخا متصوفا أو رمزا روحيا، لكنه تجسيدٌ للهيمنة المقنعة بمظاهر التقوى. هو السادي الذي يمنح “تمائم” للحراس، ويتبرك به القتلة، بينما ينتهك جسد طفل بلا حماية. هذا التواطؤ بين القهر الديني والجسدي خلق مشهدا كابوسيا للفساد “المقدّس”، حيث يُستغل الدين كستار للهيمنة والتهشيم.

هنا، لا تعني المقاومة الهروب فقط، بل القدرة على تفكيك هذه الأقنعة، على كشف العنف المتخفي خلف لحية، أو مسبحة، أو تميمة. عبدالله خليفة يرينا أن السجن الحقيقي لا ينحصر في الخارج، بل في النفوس التي تبرر القهر وتمنحه شرعية رمزية.

ورغم أن “هذا الجسد لي” تُروى من منظور ذكوري، إلا أنها ليست قصة ذكورية. فالألم الأنثوي حاضر بقوة، ومتداخل مع ألم السارد، خاصة في علاقته بأخته التي ارتبط بها عاطفيا في الطفولة كملاذ حنون. غير أن طفولتها تُقطع وتُغتصب فجأة بزواجها المبكر، وتحولها إلى “امرأة” تُنتزع من عالم الطفولة إلى عالم السلطة الذكورية.

لحظة دخولها البيت مع زوجها تتحول إلى صدمة مزدوجة: حرمان وفقد وانتهاك. فبينما يُفترض أن يكون السارد طفلا في مساحة الأمان، يتعرض لتحرّش بشع، يحدث في ظل انشغال العائلة باحتفال الزواج. هنا، يُختزل الجسد الأنثوي إلى صفقة، والجسد الطفولي إلى فراغ متاح للانتهاك، وتلتقي الآلام في تواطؤ مجتمع يُشرعن الصمت والخذلان.

يمتلك عبدالله خليفة في قصة “هذا الجسد لي” تقنية سردية سينمائية ذكية تُظهر تمكنه العميق من أدوات القصة القصيرة وتمنح نصه قابلية فريدة للتحول إلى مشروع سينمائي بالغ التأثير. ليست القصة مجرد أحداث تُروى، لكنها مشاهد تُرى بالعين. فالمتلقي لا يقرأ فحسب، بل يشاهد بعينه الداخلية: الطقوس الأولى للختان، مشهد الدم، لحظات الارتباك في العرس، صدمة السجن، ارتعاشة الجسد تحت يد المعتدي، وحتى التمرد الأخير عند البوابة المفتوحة.

يوزع خليفة هذه المشاهد بطريقة غير خطية، أشبه بمونتاج داخلي يكسر التسلسل الزمني لصالح تدفق شعوري، فيخلق طبقات من الزمن المتداخل والذاكرة المجروحة. ما يمنح القصة طابعا سينمائيا ليس فقط المشهدية، بل التقطيع المدروس بين الهواجس والوقائع، بين الصراخ المكتوم والبوح الحر، بين الداخل المنكسر والعالم الخارجي القاسي. الأسلوب خفيف، انسيابي، بلا زخرفة لغوية ثقيلة، وهو ما يمنح الصورة حرية التمدد في ذهن المتلقي.

لو فُهمت هذه الطبقات جيدا، ولو أعيد بناء القصة بصريا بروح مخلصة وفنية للنص، لأمكن أن تُقدم كفيلم قصير أو طويل شديد التأثير، يلتقط هشاشة الإنسان وجرأة الكاتب في كشف ما يخجل المجتمع من مواجهته.

إظهار ما لا يُقال

في خاتمة قراءتنا لقصة “هذا الجسد لي”، تبرز لنا أهمية هذا النص لا كحادثة سردية منفصلة، بل كقطعة حية من النسيج الاجتماعي والنفسي والثقافي الخليجي، كأنها مرآة باطنية تُظهر ما لا يُقال، وتكتب ما لا يُسمح به عادة. ما فات الحديث عنه بعمق هو الطفل كأرشيف حي للعار. فالسارد لا يتذكر فقط، ظل يحمل في جسده الذاكرة، بما فيها من توتر بين الحب والخذلان، الحماية والخيانة، الطفولة والبلوغ المفاجئ.

اللغة، في ظاهرها بسيطة، لكن خلف سلاستها يكمن تقطيع شعوري حاد يذكّرنا بتقنيات النحت أكثر مما يذكّرنا بالسرد. إنها كتابة تنقّب في الطبقات العاطفية مثلما يُنقّب في طبقات الأرض بحثا عن معدن مدفون. القصة أيضا تطرح سؤالا ثقافيا عن الرجولة المُلقّنة: كيف يُعاد تشكيل الذكر في المجتمع، لا باعتباره إنسانا حرا، بل مشروعا خاضعا للضبط، متورطا في إعادة إنتاج العنف ضد نفسه وضد الآخر.

من زاوية سردية، تُعدّ القصة درسا في الاقتصاد التعبيري، حيث لا كلمة زائدة، ولا مشهد مجانيا. كل تفصيلة تنتمي لهدف أعمق: تكسير الوهم، وفضح البنى المتكلسة. كما أن البعد الصوتي مهم؛ فالسارد لا يحكي من علٍ، بل من داخل الجرح، داخل العراء. وهذا الصوت الداخلي المتوتر هو ما يمنح النص خصوصيته.

إن قيمة “هذا الجسد لي” تتجاوز بعدها الإنساني والسياسي، لتؤسس لكتابة جريئة تمتح من السينما، من الشعر، من الفلسفة، لتعيد تعريف ما يمكن أن تكون عليه القصة القصيرة: تجربة وجودية وجمالية عالية الكثافة، تشتبك مع المجتمع لا بوصفه موضوعا خارجيا، بل بوصفه ساحة صراع داخلي، تبدأ من الجسد ولا تنتهي عنده.

في ضوء نظرية التحليل الثقافي، تتجلى قصة “هذا الجسد لي”كنص يفضح الأنساق السلطوية المتجذرة في الثقافة العربية: الدين، الأسرة، المدرسة، والسجن. الجسد هنا ليس فقط كيانا بيولوجيا، لكننا مع نصٍ ثقافي تُفرض وتُكتب عليه أنظمة القهر والمراقبة. عبدالله خليفة في هذا النص ونصوص كثيرة حاول تفكيك خطابات اجتماعية وثقافية تشرعن العنف، وتصنع من الفرد مرآة لصراعات أوسع. عبر تفكيك الخطابات الخفية داخل النص، يكشف كيف تتحول الطفولة إلى مشروع ترويض، والجنس إلى أداة ضبط، والسجن إلى استعارة لمجتمع يراقب كل ما هو مختلف. هكذا يصبح الجسد المتألم موقعا للمقاومة.

ضباط يواجهون الفصل بعد مطالبتهم بعلاج بائع الزلابية المحروق بصنعاء


عدن: تطوير شوارع المنطقة الصناعية بالدرين بتمويل من القطاع الخاص


النظام الإيراني واستراتيجية الإرهاب عبر شبكات المافيا الأوروبية


زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب سواحل جزر الكوريل الروسية دون أضرار