اخبار الإقليم والعالم
أزمة جبهة التحرير انعكاس لصراع الأجنحة في الجزائر
أطلق جناح من المناضلين والكوادر داخل حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية مبادرة تصحيحية للإطاحة بالأمين العام الحالي والهيئات العاملة معه، بدعوى تراجع أداء ومكتسبات الحزب السياسية، وانحسار خطابه ودوره كقوة أولى في البلاد، وهو ما يعود بالأساس إلى صراع أجنحة السلطة.
وطالب جناح منشق عن حزب جبهة التحرير الوطني، الحائز على الأغلبية في المجالس المنتخبة المحلية والوطنية، بعقد مؤتمر وطني جامع، يضم جميع المناضلين والكوادر الذين تم تهميشهم من طرف القيادة الحالية، والسماح للمناضلين باختيار قيادة جديدة تمثل إرادتهم وطموحهم لأداء دور طلائعي في البلاد.
ويجري توسيع “هيئة التنسيق الوطني لإنقاذ حزب جبهة التحرير الوطني”، على المستوى القاعدي في البلديات والولايات، وهي العملية التي تتم تحت إشراف هيئة قيادية أعلنت نفسها في الآونة الأخيرة، يترأسها البرلماني والعضو القيادي عبدالقادر قاسي.
ويرى بيان صادر عن المجموعة أن الحزب الذي يحوز على الأغلبية في المجالس المنتخبة محليا ووطنيا، غير مطمئن لما أسماه بـ“الانحدار الذي مُني به في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة” التي جرت شهر مارس الجاري، ولم يحز فيها إلا على 16 مقعدا فقط، بينما تم إقصاء العديد من مرشحيه من طرف الإدارة، بسبب سلبية التحقيقات الأمنية، ما يوحي بضلوعهم في ملفات فساد وسمعة سيئة.
مع كل منعطف سياسي أو استحقاق انتخابي تظهر الخلافات داخل الحزب بوصفها امتدادا لتجاذبات تدور في الخفاء بين الرئاسة وجهاز الاستخبارات وبعض دوائر الجيش
ولم تعد الأزمة التي تعصف بالحزب التاريخي مجرد انقسام داخلي بل باتت تعبيرا صريحا عن الصراع العميق بين أجنحة السلطة، حيث تحولت جبهة التحرير إلى أداة في يد مراكز النفوذ المتنافسة داخل النظام.
ومع كل منعطف سياسي أو استحقاق انتخابي تظهر الخلافات داخل الحزب بوصفها امتدادا لتجاذبات تدور في الخفاء بين الرئاسة وجهاز الاستخبارات وبعض دوائر الجيش، وهو ما لم يضعف بنيته التنظيمية فقط، بل كشف أيضا عن هشاشة التوازنات داخل منظومة الحكم.
ورغم انطباع الاستقرار الذي يطبع الحزب في الآونة الأخيرة، إلا أن المرور إلى عملية الهيكلة القاعدية والمركزية أفرز تجاذبات قوية تعكس تباين الرؤى والتصورات السياسية الداخلية، وتقاطع توجهات الأجنحة، في ظل حرص القيادة الحالية، التي يديرها الأمين العام عبدالكريم بن مبارك، على تثبيت مبدأ الولاء على حساب إرادة القواعد النضالية، وهي القاعدة التي سادت الحزب منذ مطلع الألفية.
ومنذ العام 2004، تعرض الحزب الحاكم في البلاد إلى العديد من الهزات الداخلية بسبب صراعات الأجنحة، وأبرزها القبضة الحديدية التي سادت جبهة التحرير الوطني، بين أنصار الأمين العام آنذاك علي بن فليس وخصومه الموالين للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وذلك في إطار الرغبة في تطويع الحزب للاستفادة من وعائه الاجتماعي.
ورغم عودة الحزب في انتخابات الرئاسة التي جرت العام 2004، لصالح الجناح الموالي للرئيس بوتفليقة، إلا أن عدم الاستقرار والتململ الداخلي ظلا مستمرين، فلم يلبث أن تداول على قيادته العديد من الرموز الثقيلة كعبدالعزيز بلخادم، وعمار سعداني، وجمال ولد عباس، ومحمد جميعي، ومعاذ بوشارب، إلا أن التداول على هرم الحزب لم يحدث أن مرّ بطريقة سلسلة وشفافة، ولعبت فيه الكواليس وتفصيل المخارج لعبتها.
وحملت حركات التمرد الداخلي شعارات متعددة، من “الحركة التصحيحية”، و”تأصيل الحرب”، و”تنسيقية إنقاذ الحزب”، إلا أنها كانت تسير في سياق واحد يترجم صراع أجنحة تريد الاستحواذ على الحزب القوي في البلاد، ولا تحمل رغبة في تفعيل العقيدة السياسية الموروثة عن جبهة التحرير التاريخية، والتي ظلت منذ استقلال البلاد تمثل الواجهة السياسية للسلطة.
لم تعد الأزمة التي تعصف بالحزب التاريخي مجرد انقسام داخلي بل باتت تعبيرا صريحا عن الصراع العميق بين أجنحة السلطة
ومنذ مطلع الألفية، تم تطويع الحزب ليكون ذراعا سياسية لرئيس الدولة، وانخرط في تحالفات حزبية مؤيدة للرئيس الراحل بوتفليقة، كما كان داعما دون شروط له في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، الأمر الذي حوّله إلى مطية للوصول إلى مناصب المسؤولية وتحصيل المكاسب والمصالح الضيقة للأفراد.
وتضم تنسيقية إنقاذ “الأفالان”، وهو الاختصار اللاتيني للحزب، مزيجا من المناضلين والكوادر المخضرمين والشباب الذين تجمعهم الرغبة في الإطاحة بالقيادة الحالية بالذهاب إلى مؤتمر جامع، لكن بيان الإعلان لم يحمل أيّ رسالة عن فك الارتباط بين الحزب والسلطة، فقد أصر على مقطع قدم فيه فروض الولاء والطاعة لرئيس الجمهورية عبدالمجيد تبون، ولقيادة المؤسسة العسكرية المهيمنة على إدارة الشأن العام في البلاد.
وتميزت حركات التمرد التي دبت في صفوف حزب الأغلبية بالحفاظ على تقليد الولاء والوفاء للقيادة السياسية الحاكمة في البلاد، وهو ما أفقدها البعد العميق لإصلاح الحزب الذي قاد البلاد طيلة عقود كاملة، وجعلها مجرد حركات تبحث عن التوازن داخل الحزب ومنه التموقع داخل السلطة.
وكغيره من أطياف الطبقة السياسية في الجزائر، فإن حزب جبهة التحرير الوطني فقد بريقه منذ قدوم الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون إلى السلطة في أواخر العام 2019، والذي عمل على إفراغ الطبقة السياسية من محتواها ومن دورها في المشهد العام، أمام إصراره على الشراكة السياسية مع المجتمع المدني، الذي عرف طفرة فطرية خلال السنوات الأخيرة.
وأمام علم السلطة، بأنه لا ملاذ لأحزاب الموالاة إلا التخندق في معسكر السلطة، بينما جرى تدجين باقي القوى السياسية بين الاختراق أو التضييق، سلّم حزب جبهة التحرير الوطني، وباقي القوى الحزبية، مأموريتهم للواقع، واكتفوا ببعض الطقوس السياسية، التي تظهر من حين إلى آخر في شكل لقاءات صورية بين الرئيس عبدالمجيد تبون وقادة هذا الحزب أو ذاك.
واكتفى بيان تنسيقية إنقاذ الحزب، بالتعبير عن رغبتها في تخليص الحزب مما وصفته بـ“الغبن والرداءة والإفلاس،” وهي نتيجة طبيعية لانخراط الحزب منذ حقبة الأمين العام السابق أبوالفضل بعجي، في مسار منحاز إلى السلطة، رغم أن الشارع الجزائري كان يصدح بالملايين من أجل الإصلاح ورحيل النظام السياسي القائم.