اخبار الإقليم والعالم
إيران في عين العاصفة: مأزق التفاوض تحت ضربات المقاومة وسيف العقوبات
إيران في عين العاصفة: مأزق التفاوض تحت ضربات المقاومة وسيف العقوبات
إيران في عين العاصفة: مأزق التفاوض تحت ضربات المقاومة وسيف العقوبات
بين جدران العاصمة الإيطالية روما، تنعقد اليوم الجمعة الجولة الخامسة من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني، وسط صمت رسمي إيراني مطبق، وبوساطة دبلوماسية نشطة تقودها سلطنة عمان، التي برزت في السنوات الأخيرة كقناة خلفية موثوقة بين الطرفين.
الجولة المرتقبة تُعدّ استمرارية لمسار تفاوضي دقيق انطلق في 12 أبريل الماضي، عقد خلاله الطرفان أربع جولات، ثلاث منها في مسقط وواحدة في روما. إلا أن اللافت في هذه الجولة أن طهران لم تعلن حتى الآن موقفاً رسمياً بشأن مشاركتها أو جدول أعمالها، مكتفية بالتصريح بأنها “لا تزال تدرس الاقتراح العُماني”، في ما يمكن اعتباره إشارة دبلوماسية إلى تحفظات غير معلنة.
التخصيب أولاً… لا اتفاق دون تنازل
رغم مرور أكثر من عقدين على بدء الجدل الدولي حول الطموحات النووية الإيرانية، لا يزال تخصيب اليورانيوم محور التوتر الأساسي بين طهران وواشنطن. وقد أعلن كبير المفاوضين الأميركيين، ستيف ويتكاف، بلهجة صارمة أن “برنامج التخصيب في إيران يجب أن يتوقف بالكامل. هذا خط أحمر لا يمكن تجاوزه”.
الجانب الإيراني، من جهته، لا يبدو أقل تصلباً. فقد أكد عباس عراقجي، نائب وزير الخارجية الإيراني، أن “التخصيب في إيران سيستمر سواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا”، معتبراً أن وقف التخصيب بالكامل “طلب غير منطقي، ويتعارض مع الحق السيادي للدول في الاستخدام السلمي للطاقة النووية”. كما شددت طهران على استعدادها للتعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في إطار “الشفافية لا التنازل”.
رسائل متشددة في توقيت بالغ الحساسية
وقد جاءت تصريحات المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، السيد علي خامنئي، لتضيف مزيداً من الغموض والتشدد على مسار مفاوضات تُحيط بها تعقيدات إقليمية ودولية متشابكة.
خامنئي قالها بوضوح: “لا نظن أن المفاوضات مع أميركا ستصل إلى نتيجة”، مضيفاً أن إصرار واشنطن على “تصفير التخصيب” هو “كلام فارغ” يتجاوز حدود المنطق السياسي. وقد بدا المرشد الأعلى في موقع من يرسل رسائل إلى الداخل والخارج في آنٍ معاً: طمأنة القواعد المؤيدة للنهج المتشدد من جهة، وتحذير الغرب من مغبة مواصلة الضغط من جهة أخرى.
لكن ما الذي تعنيه هذه التصريحات فعلياً في سياق المفاوضات؟
من الواضح أن طهران تسعى إلى رسم حدود واضحة لأي تسوية محتملة: لا تفريط في التخصيب، ولا خضوع لضغوط دولية، ولا استسلام لصيغة اتفاق تُظهرها في موقع المنكسر. في هذا السياق، يمكن فهم قول خامنئي إن “هدف الطرف الآخر من التفاوض المباشر هو إظهار إيران وكأنها استسلمت” بوصفه رفضاً مبدئياً لأي تسوية لا تحفظ لإيران ماء وجهها في الداخل. ويرى العديد من المحللين ووسائل الإعلام الدولية أن هذه التصريحات تعكس عدم ثقة طهران العميق بواشنطن وإصرار النظام الإيراني على التمسك بخطوطه الحمراء.
أوروبا على حافة “آلية الزناد”
الموقف الأوروبي لا يقل توتراً، حيث لمّحت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى احتمال تفعيل “آلية الزناد” التي قد تعيد فرض جميع عقوبات مجلس الأمن على إيران إذا لم تُظهر الأخيرة جدية في المفاوضات. ومن المرجح أن يشكل فصل الصيف مهلة غير معلنة أمام طهران، قبل أن تتحول التحذيرات إلى إجراءات ملموسة.
أما روسيا والصين، فعلى الرغم من دعمهما التقليدي لحق إيران في امتلاك برنامج نووي سلمي، إلا أنهما تبديان حرصاً واضحاً على عدم التصعيد. دورهما في هذه المرحلة يقتصر على الدعم السياسي، دون مبادرات فعلية لتقريب وجهات النظر، ما يجعل ميزان التأثير الحقيقي في يد واشنطن وطهران وحدهما.
التهديد الإسرائيلي واستراتيجية الردع المتبادل
في خلفية هذه المفاوضات، تتكثف التهديدات الإسرائيلية بشن ضربة عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية، في حال تعثر المسار الدبلوماسي. تل أبيب لم تعد تكتفي بالتحذيرات بل تبعث برسائل ميدانية عبر مناورات وطلعات استطلاع، تؤكد جهوزيتها للتدخل. في المقابل، توعّدت طهران بردّ “ساحق”، ما يرفع منسوب القلق حيال انزلاق محتمل نحو مواجهة عسكرية واسعة النطاق في منطقة مشبعة أصلاً بالصراعات.
تصدّع الجبهة الإيرانية: دور المعارضة وتحوّل الموقف الدولي
بعيداً عن التوترات الإقليمية، تبرز متغيرات داخلية وخارجية تعيد رسم موقع إيران في المشهد الدولي. فالمعارضة الإيرانية، وتحديداً منظمة مجاهدي خلق والمجلس الوطني للمقاومة، كثفت من تحركاتها في الأشهر الأخيرة، كاشفةً عبر وثائق وتقارير عن مشاريع سرية للنظام في مجال تصنيع السلاح النووي. هذه المعلومات، التي قُدمت إلى دوائر صنع القرار في الغرب، أحدثت صدمة في الأوساط السياسية، وساهمت في إعادة طرح ملف الشفافية النووية بقوة على طاولة المفاوضات.
آخر هذه الإفصاحات جاء من واشنطن، حيث أعلنت المعارضة الإيرانية عن موقع سري لتصنيع مكونات سلاح نووي. الإعلان الذي حظي بتغطية دولية واسعة، ألقى بظلاله على مصداقية النظام، ودفع بالمجتمع الدولي نحو مزيد من التصلب في شروطه. بالتوازي، أقرّ الكونغرس الأميركي القرار رقم 166 بدعم واضح لخطة مريم رجوي ذات النقاط العشر، ما عُدّ تحولاً نوعياً في الموقف الأميركي الرسمي من المعارضة الإيرانية.
أوروبياً، تتزايد الأصوات الداعية إلى فرض عقوبات على الحرس الثوري، خاصة مع بيانات داعمة من أغلبية برلمانية في بريطانيا، إيرلندا، ومالطا. هذه الديناميات، وإن بدت رمزية في ظاهرها، تعكس انزياحاً تدريجياً في السياسة الغربية نحو إعادة قراءة المشهد الإيراني من زاوية مختلفة: لم يعد النظام طرفاً تفاوضياً موثوقاً فقط، بل خصماً يواجه تحديات داخلية ومطالب خارجية تُضيّق عليه هامش المناورة.
سيناريوهات الصيف: اتفاق مؤقت أم صدام مفتوح؟
في هذه الأجواء، تسير المفاوضات على حبل مشدود. فإيران، مدفوعة بتصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي، تؤكد أنها لن تتخلى عن حقها في تخصيب اليورانيوم، وترفض ما تصفه بـ”الإملاءات الأميركية”، خصوصاً شرط تصفير التخصيب.
في المقابل، تتمسك الإدارة الأميركية بضرورة تجميد الأنشطة النووية الإيرانية ونقل المواد الحساسة خارج البلاد. ومع أن التلويح بالخيارات البديلة – من إعادة العقوبات إلى الخيار العسكري – يبقى مطروحاً، إلا أن واشنطن لا تزال تأمل في إعادة طهران إلى اتفاق 2015 بشروط قابلة للتحقق.
أمام هذا الانسداد، تلوح في الأفق ثلاثة سيناريوهات رئيسية: الأول، التوصل إلى اتفاق أولي أو مؤقت يُبقي على روح الاتفاق النووي دون الدخول في التفاصيل الخلافية؛ الثاني، تفعيل “آلية الزناد” من قِبل الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا)، ما يعني عودة عقوبات مجلس الأمن دفعة واحدة؛ والثالث، انفجار الموقف نحو تصعيد عسكري، سواء عبر ضربة إسرائيلية أو ردّ إيراني محتمل.
في الخلاصة أصبح الملف النووي رهينة توازنات إقليمية، وصراع إرادات دولي، واصطفافات داخلية تزداد تعقيداً. وفيما لا يزال الطرفان يؤكدان أنهما لا يسعيان إلى الحرب، إلا أن المعادلة الراهنة تزداد هشاشة، والخروج من المأزق بات يتطلب أكثر من مجرّد مفاوضات: إنه يتطلب إرادة سياسية دولية بحجم المخاطر، وجرأة في إعادة صياغة قواعد اللعبة النووية من جديد.