اخبار الإقليم والعالم
كيف يمكن للإعلام أن يكون أداة شفاء للجسد والروح والثقافة
الدكتورة ميرفت إبراهيم صوت نسائي عربي يمشي بثبات في طريق المستقبل وهي تحلل أهم وأكثر الظواهر تعقيدا في كتابها الجديد “دور الإعلام في بناء مستقبل صحي مستدام”، الذي طرحته ضمن فعاليات الدورة الحالية من معرض الدوحة الدولي للكتاب.
هذا الكتاب، الذي خرج من رحم الحاجة، لم يكن وليد لحظة تأليف عابرة، بل هو نتاج أسئلة معلقة في هواء مثقل بالتحديات: كيف يمكن للإعلام أن يتجاوز وظيفته التقليدية كمجرد ناقل للخبر؟ كيف يمكنه أن يكون أداة شفاء، لا فقط للبدن، بل للروح والضمير الجمعي؟
مفهوم شامل للصحة
الإعلام، في جوهره، ليس شاشة تعرض ولا موجة تمر. هو ذاكرة المجتمع، خياله الجمعي، وهمسه الداخلي. من هنا تنطلق الدكتورة ميرفت إبراهيم لترسم ملامح دور الإعلام في تشكيل وعي صحي مستدام، حيث لا تنفصل الصحة عن الأخلاق، ولا تنفصل الوقاية عن الثقافة.
الكتاب يسبح في فضاء متعدد الأبعاد، لا يقارب الموضوع الصحي من بوابة البيولوجيا فحسب، بل أيضا يربط الجسد بالمجتمع، بالبيئة، بالسياسة، وبالرسالة الإنسانية الكبرى. فالصحة، كما تفهم في هذا الطرح، ليست غياب المرض، بل حضور الحياة بمعناها المتكامل جسدا ونفسا وسلوكا وتفكيرا.
وما بين سطور الكتاب، يمكن للقارئ أن يلمس التماهي العجيب بين المعمار المادي والمعمار الرمزي. ففي الوقت الذي تنهض فيه قطر بناطحات سحابها الذكية، وخططها الحضرية المستدامة، تنهض أيضا بمشاريع فكرية لا تقل أهمية، منها هذا الكتاب الذي يعتبر لبنة في جدار الوعي الجديد. العمارة، كما الإعلام، تبنى على الرؤية، والتناسق، والبعد الإنساني، وإذا اختل أحدها، ضاعت البوصلة.
وقد اختارت الباحثة أن تصدر هذا العمل في معرض الدوحة للكتاب، وكأنها تعلن بأن الثقافة هي الأصل، وأن أي مشروع صحي أو بيئي أو تنموي لا يمكن أن ينجح دون أن يؤسس على إدراك ثقافي ووعي مجتمعي. هناك، بين أروقة المعرض، حيث تتقاطع اللغات وتتمازج الروائح، وقف الكتاب كوثيقة شاهدة على العصر.
في فصوله المتنوعة، يتناول الكتاب محاور تعد اليوم من المسكوت عنها في الكثير من الأبحاث الأكاديمية. كيف يمكن لوسائل الإعلام، بمختلف أنواعها، أن تتحول من مصدر للقلق أو التشويش إلى أداة للتنوير والتمكين؟ كيف يمكن أن تستخدم الرسائل الإعلامية لتغيير السلوك لا بالوعظ، بل بالإلهام؟ كيف تؤثر منصات التواصل الاجتماعي، على الرغم من فوضويتها، في الصحة النفسية للمجتمعات؟ أسئلة تتكرر، ولكنها هنا تطرح بلغة جديدة، متأنية، ومسؤولة.
ولعل ما يميز هذا الطرح هو إدراكه العميق لدور الإعلام في بيئة معولمة، حيث أصبح الفرد معرضا يوميا لطوفان من المعلومات، فيجد نفسه تائها بين الشائعة والحقيقة، بين النصيحة والخرافة. هنا، يلعب الإعلام دوره الأخلاقي الأسمى: تنقية المحتوى، حماية العقل، ووقاية النفس.
ربما كانت جائحة كوفيد – 19 اللحظة المفصلية التي أعادت تعريف معنى الصحة لدى المجتمعات. في السابق، كانت تختزل في عدد ضربات القلب أو مؤشر ضغط الدم. لكن بعد الجائحة، تغير المشهد. أصبحنا نفهم أن الصحة تبدأ من المعلومة، من الثقة، من الخطاب المتوازن، ومن القدرة على الاحتواء الاجتماعي.
أهمية الكلمة
لقد بين الكتاب، من خلال تحليل تجربة قطر الرائدة في مواجهة الجائحة، كيف يمكن لدولة صغيرة في حجمها، أن تكون كبيرة في رؤيتها واستجابتها. لم يكن النجاح محض صدفة، بل ثمرة تكامل بين الإعلام والرعاية الطبية والوعي المجتمعي. هذه التجربة لم تكن تقنية فقط، بل إنسانية أيضا حيث أعطيت الأولوية للإنسان، بوصفه الهدف والوسيلة.
ويتناول الكتاب محاور متعددة، في القضية الهامة التي يطرحها، فيبحث في الدور البناء للإعلام في نشر الوعي الصحي والبيئي، وإستراتيجيات التغيير السلوكي عبر الرسائل الإعلامية الهادفة، كما يناقش أثر الإعلام الرقمي ومنصات التواصل على الصحة النفسية والمجتمعية، والشراكات الحيوية بين المؤسسات الإعلامية والقطاعات الصحية، مقدما نماذج دولية ناجحة في استخدام الإعلام لتحقيق أهداف الاستدامة الصحية، ومبينا التحديات الأخلاقية والمهنية في تغطية القضايا الصحية.
الإعلام كما تصفه الدكتورة ميرفت إبراهيم “ليس مرآة للواقع فحسب، بل صانعه أيضا”. هذا التصريح، البسيط في ظاهره، ينطوي على ثورة معرفية في فهم دور الإعلام. الكلمة ليست فقط وسيلة نقل، بل قوة بناء، أو هدم. الكلمة قد تطمئن مريضا، أو ترعب سليما. قد تشعل حربا، أو توقظ ضميرا. من هنا، يصبح دور الإعلامي شبيها بدور الطبيب، أو المعماري، أو المربي: مسؤولية لا تؤخذ باستخفاف.
الكتاب ليس دليلا تقنيا ولا وصفة جاهزة، بل هو دعوة إلى التفكير. هو تمرين جماعي على استعادة العلاقة المفقودة بين الإنسان ومحيطه، بين الرسالة والمرسل إليه، بين الصوت والصدى. هو محاولة لصياغة إعلام يحاكي الإنسان، لا فقط باعتباره متلقيا، بل فاعلا ومؤثرا في البيئة الصحية.
وفي هذه اللحظة من التاريخ، حيث تتزاحم الخطابات وتضيع الحقائق في زحام السوشيال ميديا، نحتاج إلى من يذكرنا بأن الإعلام يمكن أن يكون جسرا لا حفرة، أملا لا تهديدا.
في عالم يفتقر أحيانا إلى البوصلة، كما تقول ميرفت إبراهيم في خاتمة الكتاب، تبقى الكلمة أداة للنجاة… متى ما كانت صادقة، والنية إنسانية، والرسالة واضحة.
وها نحن نلمس، من خلال هذا العمل، أن الكلمة لا تزال قادرة على أن تصوغ المستقبل، لا بالكلام المنمق، بل بالحقيقة التي لا تخيف، بل تحرر. إنه كتاب لا يقرأ فقط، بل يعاش، يناقش، يستلهم.