اخبار الإقليم والعالم
انعدام الثقة بالسلطة المركزية يعقّد جهود ضبط السلاح في سوريا
تواجه السلطات السورية الجديدة تحديًا بالغ التعقيد في بلدة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، جنوب شرقي دمشق، حيث يُصرّ السكان على الاحتفاظ بأسلحتهم الخفيفة، في رفض صريح لمطالبة الدولة بتسليم السلاح.
ويرى محللون أن هذا الرفض لا يعكس مجرد تمسك محلي بالسلاح، بل يعكس أزمة أعمق تتمثل في انعدام ثقة متجذر بالسلطة المركزية التي لم تفلح، حسب رأي السكان، في تقديم ضمانات أمنية حقيقية، ولا تزال عاجزة عن ضبط العصابات المسلحة التي تهدد أمن الأقليات.
وفي أعقاب اشتباكات طائفية دامية بين مقاتلين سُنة ودروز، بدأت الحكومة -التي تقودها جماعات إسلامية بعد سقوط نظام بشار الأسد- حملة لنزع السلاح في محيط دمشق. إلا أن دروز جرمانا، شأنهم شأن كثيرين في مناطق الأطراف، ينظرون بعين الريبة إلى نوايا الحكومة وقدرتها على حمايتهم بعد سنوات من الانفلات الأمني، وأشهر من التوترات المتصاعدة بين الطوائف.
ويرى الأهالي أن السلاح ليس وسيلة تحد، بل ضرورة وجودية في وجه احتمالات تكرار سيناريوهات العنف الطائفي، كما حدث في الساحل السوري مؤخرا.
ويقول مكرم عبيد، أحد وجهاء البلدة المشاركين في المفاوضات مع الحكومة، “قلنا لهم: بمجرد أن تكون هناك دولة قادرة على تنظيم قواتها، فلن تكون لدينا مشكلة في تسليم أسلحتنا.”
مطلب نزع السلاح يبدو كأنه محاولة لتجريد الأقليات من أدوات الدفاع التي تمتلكها من دون تقديم بدائل حقيقية للأمن
ويلخص عبيد المأزق بقوله “لا مشكلة في تسليم السلاح، لكن من الذي سيحمي الناس حين يختفي؟”
ويقول مراقبون إنه في ظل غياب أجهزة أمنية فاعلة، وتزايد نشاط العصابات والجماعات المسلحة في مناطق عدة من سوريا، يبدو مطلب نزع السلاح كأنه محاولة لتجريد المكونات الضعيفة من أدوات الدفاع الوحيدة التي تمتلكها، من دون تقديم بدائل حقيقية للأمن.
وتلقي الخشية من تكرار جرائم الماضي بظلالها على الحاضر. ويقول أحد سكان جرمانا “الناس يريدون الشعور بالأمان،” مضيفًا أن انهيار النظام لم يجلب الاستقرار المنتظر. ومن هنا، فإن الحديث عن نزع السلاح يبدو في نظر السكان بمثابة تفريط غير مضمون في الأمان الشخصي والمجتمعي.
ولم تنجح السلطات المركزية الجديدة، التي لا تزال تكافح لترسيخ شرعيتها، بعد في ترميم الثقة مع الأقليات، لاسيما الدروز الذين يشعرون بأنه يُطلب منهم تقديم تنازلات متتالية من دون أي التزام فعلي من الدولة بحمايتهم.
وتساءل الشيخ موفق أبوشاش بمرارة “نحن نقدم خطوات متتالية ولكن ماذا بعد،” في إشارة إلى ما يعتبره المجتمع الدرزي مسارا أحادي الاتجاه من التنازلات غير المتكافئة.
وتفاقمت الأزمة بسبب دخول إسرائيل على خط التوتر، حيث شنّت غارات على أهداف قرب جرمانا بذريعة حماية الدروز، ما زاد من تعقيد الموقف وأكد هشاشة الوضع الأمني.
ويزيد التدخل الإسرائيلي، وإن كان مرحبًا به ضمنيًا من بعض السكان، التشكيك في قدرة الدولة السورية على السيطرة على المشهد الأمني، ويغذي إحساسًا عميقًا بأن “النجاة الذاتية” تبقى الخيار الأكثر واقعية.
محللون يرون أن أول ما تحتاجه دمشق ليس تجريد جرمانا من سلاحها، بل استعادة ثقة أبنائها.
وفي ظل هذا الواقع تبدو مساعي دمشق لنزع سلاح الدروز غير قابلة للتنفيذ ما لم تُرفق بخطوات جادة لإعادة بناء الثقة. فالسلاح ليس قضية معزولة عن سياق سياسي وأمني هش، بل هو جزء من منظومة حماية ذاتية بُنيت في فراغ الدولة، وما لم تُملأ هذه الفجوة بضمانات فعلية، سيبقى السلاح في يد السكان، لا كمصدر تهديد بل كصمّام أمان.
ويشير محللون إلى أن أول ما تحتاجه دمشق ليس تجريد جرمانا من سلاحها، بل استعادة ثقة أبنائها.
ويعد تمسك الأقليات بالسلاح في مرحلة ما بعد الحرب السورية ظاهرة منتشرة في عدة مناطق، ليس فقط بسبب المخاوف الأمنية، بل نتيجة فراغ مؤسسات الدولة وضعف ثقة المجتمعات المحلية بحكومة ما بعد الأسد.
وقد سبق للدروز في السويداء أن شكلوا مجموعات حماية ذاتية خلال السنوات الأخيرة من النزاع، معتمدين على شبكاتهم المحلية بدلا من الجيش أو قوات الأمن الرسمية، التي يُنظر إليها من قبل العديد من السكان على أنها متورطة في تحيّزات طائفية أو غير قادرة على حماية المواطنين.
كما أن النظام السوري السابق استخدم في الكثير من الأحيان إستراتيجية “التسليح الموجّه”، حيث سلّح مجموعات موالية له من مختلف الطوائف لفرض سيطرته على مناطق متوترة، ما جعل السلاح جزءًا من المعادلة الاجتماعية والسياسية، لا مجرد أداة قتالية.
وجعل هذا الإرث محاولات نزع السلاح بعد سقوط النظام تواجه بحذر من المجتمعات التي لا تزال تحمل الذاكرة الحية لانهيار الأمن حين غابت الدولة، أو تواطأت مؤسساتها على العنف.
ويضاف إلى ذلك أن الوضع الجيوسياسي يضاعف من تعقيد مشهد جرمانا. فإسرائيل، التي تعهّدت علنًا بحماية الدروز السوريين، تنخرط بشكل متزايد في توجيه ضربات استباقية ضد من تعتبرهم تهديدًا لمجتمع الدروز، ما يعمّق الشعور المحلي بأن مصدر الحماية ليس دمشق، بل الخارج، ويكرس منطق الاعتماد الذاتي على السلاح.
ولطالما اتسمت العلاقة بين الطائفة الدرزية والدولة السورية بتوازن دقيق بين الولاء الوطني والسعي للحفاظ على نوع من الاستقلال المحلي، وهي علاقة تعود جذورها إلى ثورة عام 1925 حين لعب الدروز دورا محوريا في مقاومة الانتداب الفرنسي.
ولم يتحول هذا الإرث المقاوم إلى صفحة من الماضي، بل ظل حيًا في الذاكرة الجمعية لأبناء الطائفة، يغذي موقفًا راسخًا من أي محاولة لتجريدهم من وسائل الدفاع الذاتية، ويمنح السلاح بعدًا رمزيًا يتجاوز كونه مجرد أداة أمنية.
وما يعزز هذا الشعور هو واقع ما بعد النزاع السوري، الذي يشبه إلى حد بعيد تجارب بلدان أخرى شهدت حروبًا أهلية طويلة، مثل لبنان والعراق، حيث احتفظت جماعات طائفية أو عشائرية بأسلحتها لسنوات بعد توقف القتال الرسمي، في ظل غياب إصلاحات أمنية حقيقية أو مؤسسات دولة قوية.
ومن هذا المنظور تبدو جرمانا اليوم جزءًا من مشهد أوسع، تسير فيه المجتمعات المحلية على خطى مجتمعات مماثلة وجدت في السلاح ملاذا اضطراريا، وليس خيارا عدائيا.
ويزداد المشهد تعقيدًا في جرمانا بفعل أبعاده الإقليمية والدولية، فالجنوب السوري لم يعد مجرد ساحة داخلية للصراع على السلطة، بل تحوّل إلى منطقة تتقاطع فيها مصالح دولية كبرى، أبرزها إسرائيل وإيران وروسيا.
ولا يمكن إغفال الأثر النفسي والاجتماعي العميق الذي خلفه انهيار الأمن على المجتمعات المحلية، خاصة تلك التي تنتمي إلى أقليات دينية أو إثنية. ففي مثل هذا السياق لا يُنظر إلى السلاح كخطر، بل كجزء من معادلة البقاء، وعنصر أساسي من عناصر الشعور بالأمان والانتماء.
وتحول السلاح إلى رمز للكرامة الشخصية والقدرة على حماية الذات، بعد أن فقدت الدولة مصداقيتها كمصدر موثوق للأمن.
ولذلك لا يمكن أن يتم تفكيك هذا الارتباط بقرارات فوقية أو عبر حملات نزع سلاح تفتقر إلى الضمانات، بل يتطلب مسارًا طويلا من إعادة بناء الثقة، ومصالحة حقيقية تنبع من إدراك الدولة لحقيقة أن ما فقد ليس فقط السيطرة، بل الشرعية.