تقارير وحوارات
تقدير موقف: كيف ستؤثر عقوبات واشنطن على بنك اليمن الدولي على الحوثيين والنظام المصرفي؟
في خطوة تصعيدية جديدة تجسّد التحول الاستراتيجي في أدوات الضغط التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية في تعاطيها مع النزاعات الإقليمية، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في أبريل 2025 فرض عقوبات مباشرة على بنك اليمن الدولي وعدد من مسؤوليه التنفيذيين، موجهة إليهم اتهامات بتقديم دعم مالي مباشر وغير مباشر لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، المصنفة أمريكيًا كمنظمة إرهابية أجنبية. لم يكن هذا الإعلان مجرد إجراء اقتصادي محدود النطاق، بل مثّل رسالة سياسية واضحة تحمل دلالات متعددة، سواء فيما يتعلق بإستراتيجية واشنطن لاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، أو في ما يتصل بحماية أمن الممرات البحرية الدولية من التهديدات الحوثية المتزايدة، خصوصًا في البحر الأحمر، الذي يُعد شريانًا تجاريًا حيويًا للعالم.
تأتي هذه الخطوة في توقيت بالغ الحساسية على المستويين المحلي والإقليمي؛ ففي اليمن، يمر النظام المصرفي بواحدة من أسوأ مراحله التاريخية نتيجة الحرب المستمرة والانقسام المؤسسي بين سلطتين مصرفيتين في صنعاء وعدن. وعلى المستوى الإقليمي، تتزايد التوترات بين إيران وحلفائها من جهة، وبين التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى، خصوصًا بعد تنامي الهجمات البحرية التي تستهدف سفن الشحن الدولي. ضمن هذا السياق، يمكن قراءة العقوبات الأمريكية على بنك اليمن الدولي كمحاولة لضرب شبكات التمويل الحوثية التي تغذت خلال سنوات على اقتصاد الحرب، وعلى تقاطعات مشبوهة بين الاقتصاد الرسمي والاقتصاد غير الرسمي.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية معمّقة لتقدير الموقف السياسي والاقتصادي والأمني الناتج عن هذا القرار الأمريكي. وسيتضمن ذلك تحليل الدوافع الكامنة وراء القرار، استعراض المواقف المتوقعة من الأطراف اليمنية والإقليمية والدولية، وتفصيل التداعيات المحتملة على البنية المصرفية اليمنية وعلى أداء جماعة الحوثي المالي، بالإضافة إلى تقديم رؤية تحليلية لمآلات هذا التصعيد المالي في ظل توازنات القوى الراهنة في المنطقة. سيتم ذلك بلغة علمية، تستند إلى المقاربات متعددة الأبعاد، وتُراعي الطبيعة المعقدة للتداخل بين الاقتصاد والسياسة في السياق اليمني.
ثانيًا: خلفية القرار والسياق العام
لفهم طبيعة العقوبات الأمريكية المفروضة على بنك اليمن الدولي في أبريل 2025، من الضروري الإحاطة بالسياق السياسي والأمني العام الذي تطور خلال السنوات الماضية، وأفضى إلى هذه الخطوة. منذ تصاعد الحرب في اليمن عقب الانقلاب الحوثي في عام 2014، دخلت البلاد في حالة من الانقسام السياسي والمؤسسي الحاد، الأمر الذي أفرز سلطتين ماليتين: الأولى تابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا ومقرها في عدن، والثانية تابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) وتدير مؤسسات مالية من صنعاء. هذا الانقسام أوجد بيئة خصبة لاضطراب النظام المصرفي الوطني، وأسهم في تآكل الثقة المحلية والدولية في البنية المالية اليمنية، وهو ما شجع الجماعة الحوثية على توظيف أدوات الاقتصاد المحلي لصالح تمويل نشاطها العسكري والأمني.
برز بنك اليمن الدولي كواحد من أبرز البنوك اليمنية التجارية التي واصلت العمل في ظل الانقسام المؤسسي، إذ ظل يحتفظ بعلاقات مالية معقدة مع مؤسسات مصرفية وشركات في مناطق مختلفة من اليمن، بل ومع مؤسسات خارجية في بعض الأحيان، بحكم حجم رأسماله وشبكة عملائه. ومع أن البنك لم يكن رسميًا تابعًا لأي من السلطتين، إلا أن استمرار نشاطه في مناطق سيطرة الحوثيين، بالإضافة إلى تزايد المؤشرات بشأن تسهيله لتحويلات مالية واستخدامات نقدية من قبل الجماعة، جعله في دائرة الشكوك بالنسبة للسلطات الأمريكية.
تزامن القرار الأمريكي مع تطورات نوعية في مسار الصراع، أبرزها التصعيد الحوثي في البحر الأحمر من خلال استهداف السفن التجارية وناقلات النفط، والذي اعتبرته الولايات المتحدة تهديدًا مباشرًا للتجارة العالمية ولأمن شركائها في المنطقة. في المقابل، كانت واشنطن قد صعّدت أدوات المواجهة غير المباشرة ضد إيران وحلفائها، من خلال فرض عقوبات مالية مركّزة، والضغط على الأطراف التي تمكّن الجماعات المسلحة من النفاذ إلى النظام المالي الدولي.
ولا يمكن عزل هذا القرار عن السياسة الأمريكية الأوسع في المنطقة، والتي باتت تركّز على استنزاف أدوات القوة الناعمة والاقتصادية للجماعات المصنفة كإرهابية، بدلًا من الاعتماد الكامل على التدخل العسكري المباشر. إذ أن وزارة الخزانة الأمريكية، خلال السنوات الماضية، عززت من دورها في سياق مكافحة الإرهاب والأنشطة غير المشروعة، من خلال أدوات قانونية مثل "الأمر التنفيذي 13224" الذي يتيح تصنيف الكيانات والأفراد الذين يسهمون ماديًا أو لوجستيًا في تمويل الإرهاب.
وفي هذا السياق، يظهر قرار استهداف بنك اليمن الدولي ليس كمجرد رد فعل عابر، بل كحلقة من سلسلة قرارات مدروسة تسعى إلى تجفيف منابع تمويل الحوثيين، وتعزيز الحصار المالي المفروض عليهم، ودفعهم إلى الانكماش في قدرتهم على التحرك دوليًا. وهو قرار يحمل في مضمونه رسالة واضحة: أن أي كيان مالي، سواء أكان محليًا أو إقليميًا أو دوليًا، لا يلتزم بالمعايير الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب، سيكون عرضة للملاحقة والعقوبات، حتى في بيئات الحرب المعقدة مثل اليمن.
ثالثًا: الدوافع الأمريكية وراء فرض العقوبات
يمكن فهم القرار الأمريكي بفرض عقوبات على بنك اليمن الدولي ضمن إطار استراتيجي متكامل، يتجاوز الرد التكتيكي على حادثة أو معلومة استخباراتية ظرفية. فالعقوبات جاءت كجزء من سياسة أمريكية أشمل تهدف إلى استخدام أدوات الضغط المالي لاستهداف الجماعات المسلحة التي تعمل كوكلاء لإيران في المنطقة، وفي مقدمتها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، التي أصبحت تشكل تهديدًا متعدد الأبعاد، يتجاوز حدود اليمن ليطال الأمن الإقليمي والدولي.
أول هذه الدوافع يتمثل في السعي إلى تعطيل الشبكات المالية للحوثيين، وهي شبكات معقدة بُنيت عبر سنوات، وتداخلت فيها آليات الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، إلى جانب أدوات فرض الجباية والسيطرة على الأسواق المحلية، والتحويلات المالية من الخارج. ووفقًا لتقارير أمريكية، فإن الحوثيين استفادوا من مؤسسات مصرفية عاملة في اليمن لتبييض الأموال، وتسهيل التحويلات، وتخزين العملة الصعبة، وهو ما عزز من قدرتهم على تمويل العمليات العسكرية، وشراء الأسلحة، وتوسيع نفوذهم. وعليه، فإن استهداف بنك كبير كـ"بنك اليمن الدولي" يندرج ضمن خطة لضرب القلب المالي النابض لهذه المنظومة.
ثانيًا، يمكن النظر إلى القرار باعتباره جزءًا من مساعي الولايات المتحدة لحماية أمن الملاحة الدولية. فمنذ أواخر 2023، صعّدت جماعة الحوثي من هجماتها على السفن التجارية العابرة للبحر الأحمر، مستخدمة طائرات مسيرة وصواريخ باليستية. وقد تسببت هذه الهجمات في إرباك حركة التجارة الدولية، وارتفاع أسعار التأمين والشحن، كما أثارت قلقًا لدى الشركاء الأوروبيين والآسيويين. من هنا، فإن واشنطن رأت أن ضرب التمويل الحوثي يمثل وسيلة غير مباشرة لتقليص قدرات الجماعة على مواصلة عملياتها البحرية المكلفة والمعقدة.
ثالثًا، العقوبات تأتي في سياق استعراض القوة القانونية الأمريكية عبر نظام العقوبات الدولية، الذي يمنحها قدرة هائلة على عزل الأفراد والكيانات من النظام المالي العالمي. فالولايات المتحدة لا تحتاج إلى تدخل عسكري مباشر لتقويض قدرة خصومها، بل تستطيع فعل ذلك عبر أدوات اقتصادية عابرة للحدود، تؤثر على المصارف، والتحويلات، والأصول. وهذا ما يجعل العقوبات على بنك اليمن الدولي رسالة تحذير ضمنية لأي مؤسسة قد تفكر في تسهيل المعاملات المالية للحوثيين أو غيرهم من الجماعات المصنفة إرهابية.
رابعًا، القرار يُقرأ أيضًا من زاوية تعزيز التنسيق مع الحلفاء الإقليميين، خصوصًا السعودية والإمارات، في إطار التحالف لمواجهة النفوذ الإيراني. فالمعركة مع الحوثيين لا تجري في فراغ، بل هي جزء من شبكة صراعات أوسع تشمل العراق، وسوريا، ولبنان، وغزة، وتدور بين محوري واشنطن-تل أبيب-الرياض-أبوظبي من جهة، وطهران ومنظماتها المتحالفة من جهة أخرى. وبالتالي، فإن الضغوط المالية تمثل أداة لاحتواء هذا المحور، وخلق بيئة أكثر مواءمة للدبلوماسية الأمريكية.
وأخيرًا، هناك دافع داخلي أمريكي يتصل بالسياسات الحزبية والضغوط الإعلامية، حيث يتعرض صانع القرار الأمريكي لضغوط متزايدة لاتخاذ إجراءات حازمة تجاه الجماعات التي تهدد الأمن الدولي، خاصة بعد تصاعد الانتقادات التي طالت إدارة الرئيس في التعامل مع الأزمات العالمية، ومن ضمنها ملف الحوثيين. لذا فإن العقوبات تشكّل أيضًا ردًا داخليًا يهدف إلى إظهار الحزم، وطمأنة الرأي العام الأمريكي والحلفاء بأن الولايات المتحدة ما تزال تملك اليد العليا في معادلة الردع المالي.
رابعًا: المواقف المتوقعة من الأطراف المختلفة
يمثل قرار الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على بنك اليمن الدولي ومسؤوليه نقطة ارتكاز جديدة في سياق العلاقات المتشابكة بين القوى المحلية والدولية المنخرطة في الصراع اليمني. ومن هذا المنطلق، فإن تقييم المواقف المتوقعة من مختلف الأطراف المعنية بالعقوبات – سواء كانت فاعلين محليين، إقليميين، أو دوليين – يُعد أمرًا ضروريًا لرسم خارطة التأثيرات المحتملة وتحليل سلوك القوى المعنية. فكل طرف سيتعامل مع هذا القرار بناءً على مصالحه، ودرجة تأثره، ورؤيته للصراع ومآلاته.
1. جماعة الحوثي:
من المرجح أن تتخذ جماعة أنصار الله (الحوثيين) موقفًا هجوميًا من القرار، ليس فقط على المستوى الإعلامي والدعائي، بل أيضًا من خلال تعزيز الاعتماد على الاقتصاد الموازي وتكثيف الجبايات المحلية لتعويض أي انقطاع في التدفقات المالية الرسمية. الحوثيون لطالما اعتادوا على استخدام القرارات الدولية كأدوات تعبوية في خطابهم، ومن المرجح أن يتم تصوير العقوبات الأمريكية كجزء من "العدوان الاقتصادي الأمريكي-السعودي على الشعب اليمني"، في محاولة لتحويلها إلى رصيد دعائي يعبّئ الجمهور ويعزز من شرعيتهم المحلية.
بالإضافة إلى ذلك، ستحرص الجماعة على تنشيط قنوات التمويل غير الرسمية مثل شبكات تحويل الأموال الخاصة، وتبادل العملة خارج النظام المصرفي الرسمي، وتوسيع النشاطات الاقتصادية التي تخضع لسيطرتها مثل تجارة المشتقات النفطية والأسواق العقارية. وربما تشهد الجماعة تحولات في نمط علاقتها بالمؤسسات المالية المتبقية، بحيث تُخضعها لمزيد من السيطرة المباشرة خشية تكرار سيناريو العقوبات.
2. الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا:
من ناحية مبدئية، ستُرحب الحكومة الشرعية بالقرار الأمريكي وتعتبره بمثابة دعم سياسي مباشر لجهودها في تقويض سيطرة الحوثيين على الاقتصاد الوطني. وقد تُوظف هذه الخطوة دبلوماسيًا في المحافل الدولية لتسليط الضوء على كيفية استغلال الحوثيين للمؤسسات المالية لأغراض عسكرية وتمويل أنشطة إرهابية، الأمر الذي يشرعن أي إجراءات إضافية تقوم بها الحكومة لإعادة تنظيم النظام المالي وتصفية المؤسسات المتعاملة مع الحوثيين.
لكن في الوقت نفسه، فإن الحكومة قد تواجه تحديات داخلية ودولية تتعلق بضرورة تقديم بدائل آمنة وموثوقة للمواطنين الذين يعتمدون على بنك اليمن الدولي في معاملاتهم اليومية. فاستمرار غياب مؤسسات مصرفية قوية وموثوقة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة قد يُضعف الأثر الإيجابي المفترض للعقوبات، ويجعل المواطنين في مناطق الشرعية أكثر عرضة للارتباك الاقتصادي، ما لم يُرفق القرار بخطوات تعزيزية ملموسة على الأرض.
3. التحالف العربي (خاصة السعودية والإمارات):
سيرى التحالف بقيادة السعودية في القرار الأمريكي مكسبًا استراتيجيًا، فهو يتقاطع مع هدفه المعلن في تحجيم قدرات الحوثيين، ليس فقط عسكريًا بل اقتصاديًا كذلك. كما أن القرار يعزز من مبدأ "تجفيف منابع التمويل" الذي سعت دول التحالف لتطبيقه منذ بداية الحرب. ومن المرجح أن يتم التنسيق مع واشنطن لاستهداف كيانات مالية إضافية يُشتبه في ارتباطها بالحوثيين، سواء داخل اليمن أو خارجه، ولا سيما في مناطق القرن الأفريقي أو عبر شركات تحويل الأموال.
4. إيران:
من منظور استراتيجي، قد لا تُعلن إيران موقفًا مباشرًا من العقوبات على بنك يمني، لكن من الواضح أنها ستعتبر الخطوة جزءًا من محاولات أمريكية-خليجية لتضييق الخناق على وكلائها في المنطقة. وربما تُحرّك طهران أدواتها الإعلامية والدبلوماسية لتصوير القرار كجزء من حملة اقتصادية تستهدف شعوب المنطقة، لا سيما في ظل حساسية الملف اليمني في المحادثات الإقليمية التي تجري بين إيران وبعض الأطراف الخليجية والدولية.
5. الأمم المتحدة والمنظمات الدولية:
سيكون موقف الأمم المتحدة حذرًا، إذ أن مثل هذه العقوبات – رغم استنادها إلى معايير قانونية أمريكية – قد تثير مخاوف من تعطيل وصول المساعدات المالية والإنسانية إذا لم تُصمم بدائل مالية واضحة. وقد تطالب بعض المنظمات الدولية بضمانات بأن العقوبات لن تمس حسابات المواطنين، أو التحويلات الإنسانية، أو رواتب الموظفين العاملين في مناطق الحوثيين.
6. الشارع اليمني والمواطنون:
من المرجح أن يشعر المواطن العادي في اليمن بالقلق والارتباك، خاصة أولئك الذين لديهم حسابات أو معاملات مالية مع بنك اليمن الدولي. إذ من غير الواضح ما إذا كانت العقوبات ستؤثر على إمكانية السحب أو التحويل، كما أن ضعف الثقافة المصرفية في بعض المناطق قد يؤدي إلى انتشار الشائعات والتضليل. وقد تستغل جماعة الحوثي هذه الفجوة لإلقاء اللوم على التحالف والولايات المتحدة، وتقديم نفسها كمدافع عن الاقتصاد الوطني.
خامسًا: التداعيات المحتملة للعقوبات على المستويات المالية والسياسية والإنسانية
يحمل القرار الأمريكي بفرض العقوبات على بنك اليمن الدولي مجموعة من التداعيات المتشابكة التي ستطال ليس فقط الجماعة الحوثية التي استهدفتها العقوبات بشكل مباشر، بل أيضًا مختلف الأطراف المرتبطة بالبنية المصرفية والاقتصادية في اليمن، والتي تعاني أصلًا من هشاشة مفرطة نتيجة الحرب والانقسام والشلل المؤسسي. إن التداعيات المحتملة للعقوبات لا تقتصر على التأثير المالي فحسب، بل تتسع لتشمل البُعد السياسي، والإنساني، والاجتماعي، في بلد يمرّ بواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمعيشية في تاريخه الحديث.
1. على القطاع المصرفي اليمني:
من المرجح أن تتسبب العقوبات في زيادة هشاشة النظام المصرفي اليمني، خاصة مع استهداف أحد أكبر البنوك التجارية في البلاد. سيؤدي هذا إلى تراجع ثقة العملاء في النظام المالي، خصوصًا في المناطق التي تخضع لسيطرة جماعة الحوثي، حيث يفتقر المواطنون إلى بدائل مصرفية آمنة. كما قد تضطر المؤسسات المالية الأخرى إلى تقليص أو إعادة النظر في تعاملاتها المصرفية، خوفًا من التعرض لعقوبات مماثلة أو تصنيفات دولية قد تمسّ بسمعتها.
إلى جانب ذلك، ستؤدي العقوبات إلى تعطيل العمليات المالية الدولية للبنك المستهدف، بما في ذلك التحويلات الخارجية، وتمويل الاستيراد والتصدير، والتعامل مع أنظمة الدفع الدولية، ما قد يؤثر سلبًا على دورة التجارة الأساسية، لا سيما في استيراد المواد الغذائية والسلع الضرورية، التي تعتمد في الغالب على قنوات مالية منظمة. وكلما تعمق العزل المالي لبنك اليمن الدولي، زادت الضغوط على شبكة البنوك المتبقية، سواء من حيث التحويلات أو تكدّس السيولة أو شح العملة الصعبة.
2. على جماعة الحوثي:
من الناحية العملياتية، ستضطر الجماعة الحوثية إلى البحث عن قنوات بديلة لتمويل عملياتها، في ظل صعوبة الوصول إلى النظام المصرفي الرسمي. قد تدفع هذه التطورات الجماعة إلى تعظيم الاعتماد على الأدوات غير الرسمية، مثل شبكات الحوالات، وتجارة السوق السوداء، ومصادرة أموال التجار، وتكثيف فرض الضرائب والجبايات على المواطنين والمنشآت التجارية. هذه البدائل، وإن كانت تحقق بعض التدفقات المالية، إلا أنها أقل كفاءة وأكثر كلفة، كما أنها تعمّق من التوترات الاجتماعية والسياسية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
كما أن العزل المالي قد ينعكس على قدرة الجماعة في إدارة بعض القطاعات الخدمية، مثل الصحة والتعليم، أو في دفع رواتب الموظفين، ما يضعها في موقف حرج أمام المواطنين، خاصة مع تنامي الغضب الشعبي من تدهور الأوضاع المعيشية. ولا يُستبعد أن تلجأ الجماعة إلى التصعيد الميداني أو الإعلامي كنوع من الردع والضغط المضاد، سواء من خلال تكثيف الهجمات في البحر الأحمر أو استهداف مواقع نفطية في دول الجوار.
3. على المسار السياسي والدبلوماسي:
قد تخلق العقوبات تعقيدًا إضافيًا أمام جهود الوساطة الأممية والدولية الهادفة إلى إحياء العملية السياسية في اليمن، إذ يمكن للحوثيين استخدام القرار كمبرر للتشدد في مواقفهم، ورفض التنازلات السياسية بدعوى أنهم يتعرضون لحصار اقتصادي غير مشروع. في الوقت نفسه، قد تُحرج بعض الأطراف الدولية التي تحاول الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع الحوثيين، ما يضعف فرص أي اختراق دبلوماسي قريب.
ورغم أن العقوبات تعزز من موقف الحكومة اليمنية من حيث الشرعية القانونية والدعم الدولي، إلا أن غياب آليات اقتصادية واضحة لاحتواء آثارها قد يؤدي إلى ارتباك داخلي، خاصة في حال تأثرت أنشطة البنوك التجارية أو أُغلقت حسابات آلاف اليمنيين في الخارج. لذا فإن غياب خطة اقتصادية مصاحبة قد يُفرغ القرار من مضمونه السياسي ويزيد من التكلفة الإنسانية.
4. على الجانب الإنساني والسكاني:
تشكل العقوبات، إن لم تكن مدروسة بعناية، خطرًا على وصول المساعدات الإنسانية إلى ملايين اليمنيين، خاصة في مناطق الشمال. إذ أن عزل بنك بحجم بنك اليمن الدولي قد يُعقّد عمليات تحويل الأموال الخاصة بالمنظمات الدولية، أو يُثير حذر المؤسسات المصرفية الأجنبية التي تخشى من التعامل مع النظام المصرفي اليمني عمومًا. كما أن المواطنين العاديين الذين يستخدمون البنك في استلام حوالات من أقاربهم في الخارج قد يجدون أنفسهم في حالة شلل مالي مفاجئ، دون بدائل واضحة.
وفي بلد يعيش فيه أكثر من 80٪ من السكان تحت خط الفقر، فإن أي اضطراب مالي إضافي من شأنه أن يُفاقم الأزمة المعيشية، ويُعمّق الفجوة بين السلطات والمؤسسات والمواطنين. لهذا، سيكون من الضروري مرافقة القرار الأمريكي وفق بخطوات تضمن استمرار القنوات الإنسانية والمالية الشرعية التي يستفيد منها المدنيون، بعيدًا عن الجماعات المسلحة.
سادسًا: التقدير العام
من خلال استعراض المسارات المختلفة للعقوبات الأمريكية على بنك اليمن الدولي، يتضح أن هذه الخطوة ليست مجرد إجراء مالي محدود، بل تمثل تحولًا استراتيجيًا في أسلوب المواجهة الذي تنتهجه الولايات المتحدة ضد جماعة الحوثي، وفي عمق ذلك، ضد النفوذ الإيراني في شبه الجزيرة العربية. إذ يعكس القرار رغبة أمريكية في الانتقال من الردود العسكرية التقليدية إلى أدوات أكثر مرونة واستدامة، من بينها العقوبات المالية، التي تُوجَّه بدقة ضد مراكز الثقل الاقتصادي للجماعات المسلحة. بهذا المعنى، تندرج العقوبات على بنك اليمن الدولي في إطار هندسة متقدمة لأدوات الردع الأمريكي، بحيث تترك الأثر دون التورط المباشر في الصراع الميداني.
لكن على الرغم من وجاهة المبررات السياسية والأمنية التي قدّمتها واشنطن، إلا أن القرار يحمل في طيّاته عددًا من المفارقات والتحديات. فمن جهة، يُتوقّع أن يُساهم في تقليص قدرة الحوثيين على الوصول إلى النظام المالي الرسمي، وبالتالي تقويض جزء من بنيتهم التحتية الاقتصادية. ومن جهة أخرى، فإن هذا القرار لا يخلو من تبعات جانبية قد تُضعف من فعاليته، خاصة إذا لم يُرافق بخطط بديلة تدعم استقرار النظام المصرفي اليمني، وتوفّر قنوات آمنة للمواطنين غير المنخرطين في النزاع.
من الناحية السياسية، يُعزز القرار من مكانة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، ويمنحها ورقة ضغط إضافية يمكن توظيفها دبلوماسيًا، إلا أن هذا التأثير سيبقى محدودًا ما لم تنجح الحكومة في استثمار هذا الدعم عبر إجراءات عملية، تعزز من حضورها المالي والإداري، وتقلل من اعتماد المواطنين على المؤسسات الخاضعة للحوثيين. كذلك، فإن غياب القدرة على تقديم بدائل حقيقية قد يجعل من العقوبات مجرد عبء إضافي على بيئة مصرفية هشة أصلًا.
على المستوى الإقليمي، قد يُنظر إلى العقوبات كخطوة تصب في خانة احتواء الأذرع الإيرانية، وتبعث برسائل اطمئنان لحلفاء واشنطن، خاصة في الخليج، بأن أمن الممرات البحرية والتجارة الدولية ما يزال من أولويات الاستراتيجية الأمريكية. إلا أن هذا المكسب الرمزي يجب ألا يُخفي الحاجة إلى تنسيق دولي أوسع يضمن عدم انزلاق القرار إلى نتائج عكسية، مثل تعقيد جهود السلام أو الإضرار بالمواطنين اليمنيين الذين يعيشون في ظل ظروف مأساوية.
أما بالنسبة لجماعة الحوثي، فمن غير المتوقع أن تتراجع بسهولة عن سياساتها أو سلوكها العدائي تحت ضغط العقوبات وحدها. فقد أثبتت تجارب سابقة – مع إيران وحزب الله مثلًا – أن الجماعات المسلحة قادرة على تطوير اقتصاد موازٍ، واللجوء إلى أدوات تمويل غير رسمية أكثر خطورة وغموضًا. ولهذا، فإن نجاح العقوبات سيكون مرهونًا بمدى قدرة واشنطن وحلفائها على سدّ الثغرات المحتملة، وتعزيز الحوكمة المالية في المناطق المحررة، وإيجاد أدوات رقابة فعالة على التحويلات، مع ضمان استمرار التدفق الإنساني.
في المجمل، يُعد قرار العقوبات مؤشرًا على دخول الصراع اليمني مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا، تُوظف فيها أدوات اقتصادية لضرب البنية الداخلية للجماعة المسلحة. لكنه، وبنفس القدر، يتطلب استراتيجية متكاملة تتضمن خطوات مرافقة على مستوى دعم البنك المركزي، تطوير البنية التحتية المالية، وتحييد القطاع المصرفي عن خطوط التماس السياسي، حتى لا يتحول المواطن اليمني إلى الضحية غير المقصودة لصراع لا يزال مفتوحًا على المجهول.
ممتاز، إليك الآن الخاتمة بصياغة علمية موسعة وشاملة لا تقل عن 20 سطرًا، وتُختتم بها ورقة تقدير الموقف بشكل متكامل:
الخاتمة
تؤشر العقوبات الأمريكية المفروضة على بنك اليمن الدولي إلى نقطة تحول في نمط التفاعل الدولي مع جماعة الحوثي، وتكشف في الوقت ذاته عن الأهمية المتزايدة التي باتت تحظى بها أدوات القوة المالية في السياقات الجيوسياسية المعقدة. فعوضًا عن التصعيد العسكري المباشر، اختارت واشنطن أن تضرب في العمق الاقتصادي للجماعة، عبر استهداف واحد من أبرز البنوك التي يُشتبه في تسهيلها لمعاملات مالية مرتبطة بالحوثيين، وهي خطوة تحمل دلالات استراتيجية تتجاوز اللحظة، وتشير إلى ميلٍ أمريكي متزايد نحو توظيف العقوبات كوسيلة ضغط "نظيفة"، لا تخلّف أضرارًا مباشرة على الأرض، ولكنها تهدف إلى خنق المنظومات الداعمة للجماعات المسلحة عبر تجفيف منابعها.
لكن في المقابل، تفرض هذه المقاربة تحديات جدية لا يمكن التغاضي عنها. فالنظام المصرفي في اليمن – كما هو الحال في العديد من الدول التي تعيش حروبًا أهلية – يعاني من هشاشة مزمنة، ومن انقسام مؤسسي يجعله عرضة للاستغلال، ولكنه في الوقت نفسه يُعد أحد آخر الأعمدة المتبقية التي تُبقي الحد الأدنى من النشاط الاقتصادي والإنساني قائمًا. وبالتالي، فإن ضرب مؤسسة مالية بهذا الحجم دون وجود إطار موازٍ لمعالجة الأثر المدني والاقتصادي، قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة المعيشية لملايين اليمنيين، الذين يجدون أنفسهم ضحايا لصراع لا يُشاركون فيه، ولا يتحكمون في مساراته.
إن الجماعات المسلحة، بما فيها جماعة الحوثي، أثبتت قدرتها على التكيّف مع الضغوط الخارجية، وتطوير شبكات تمويل مرنة، تعتمد على الجباية، والتجارة غير الرسمية، والحوالات غير الخاضعة للرقابة، ما يجعل الرهان على فاعلية العقوبات وحدها أمرًا يحتاج إلى الحذر. لا بد إذًا من أن تأتي هذه العقوبات ضمن سياق خطة أشمل، تُشرك الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، وتسعى لتقوية الجهات الشرعية في اليمن، لا فقط من الناحية العسكرية، بل من خلال بناء بنية اقتصادية قادرة على امتصاص الصدمات وتقديم بدائل حقيقية.
وبذلك، فإن تقدير الموقف العام يميل إلى أن القرار الأمريكي، رغم قوته الرمزية وتوقيته المدروس، لا يجب أن يُفهم على أنه نهاية الطريق، بل بوابة لمرحلة جديدة من المواجهة الاقتصادية-السياسية مع جماعة الحوثي. وهي مواجهة تتطلب الكثير من التنسيق، والحكمة، والوعي بتعقيدات المشهد اليمني، حتى لا تتحول أدوات الضغط إلى عوامل تغذية إضافية لفوضى اقتصادية، قد تكون أكثر تدميرًا من الحرب ذاتها. إن النجاح الحقيقي يكمن في تحويل هذه الإجراءات إلى فرصة لتعزيز البنية المؤسسية للدولة، وضمان تحييد القطاع المالي عن الاستقطاب، وخلق مساحات أوسع لدفع العملية السياسية إلى الأمام، لا إلى الخلف.