منوعات
استعانة الحكومة المصرية بمؤثرين لإيصال المعلومة اعتراف بتهاوي الإعلام
اضطرت الحكومة المصرية إلى تعديل نظرتها إلى منصات التواصل الاجتماعي من كونها أحد أسباب الفوضى ونشر الشائعات إلى وسيلة لتسويق خطط ورؤى مؤسسات رسمية من خلال العناصر المؤثرة التي تتمتع بجماهيرية واسعة على الفضاء الإلكتروني، مع تراجع شعبية وسائل الإعلام التقليدية.
وهو ما فعلته وزارة المالية عندما أطلقت مبادرة “نفهمها صح”، وتستهدف نشر الوعي بمنظومة الضرائب الجديدة.
ويواصل وزير المالية لقاء المؤثرين على منصات التواصل باعتبارهم الأكثر نشاطا على الفضاء الإلكتروني ويتمتعون بتفاعل إيجابي من الجمهور، ومن المتوقع تكرار الخطوة من جهات أخرى مقتنعة بتفوق المنصات على الإعلام التقليدي.
ويولي الجمهور المصري اهتماما بمشاهير ومؤثرين معروفين على مواقع التواصل، مقارنة بضعف متابعة الصفحات الرسمية للصحف وقنوات فضائية على منصات مثل تيك توك وإنستغرام وفيسبوك، لأن المؤثرين هم الأكثر تفاعلا ووصولا إلى الجمهور طوال الوقت.
وأثارت خطوة الاستعانة بمؤثرين للترويج لخطط حكومية تذمرا عند بعض الصحافيين، وبدت رسالة سلبية توحي بتراجع دورهم كوسطاء بين الوزارات المختلفة والشارع، كما أن هناك مؤثرين ليست لديهم خبرة وكفاءة لتقديم معلومات موثقة وتفسيرات عقلانية، لأنهم ليسوا متخصصين في مجالاتهم.
وتضم صناعة المحتوى الرقمي بمصر الكثير من الهواة، وبإمكان أيّ شخص يمتلك حسابا على التطبيقات الاجتماعية أن يركز على ملف بعينه ويفهم بعض دهاليزه، ثم يتحول إلى نجم يشرح ويفسر بطريقة تجذب إليه متابعين، ويربح المال بأقل جهد.
وأثّر ذلك على جماهيرية الإعلام التقليدي، ويمكن رصد عدد المتابعين للأشخاص المؤثرين مقارنة بمتابعي صفحات الصحف والقنوات الفضائية، فقد تجد عند أحدهم أكثر من مليوني متابع، في حين لا يصل عدد المشتركين في صفحة برنامج شهير يقدّم على قناة معروفة ثلث هذا الرقم.
ولأن الحكومة يعنيها في المقام الأول أن تصل رسالتها إلى الجمهور، من الطبيعي أن تعتمد على عناصر القوة مثل المؤثرين.
ومع هذا الواقع أصبح الإعلام في مصر بعيدا عن ملامسة احتياجات ورغبات الجمهور، الذي لم يعد أمامه سوى إعلام نجوم مواقع التواصل التي تبني سياستها التحريرية وفق رغبات المتابعين حتى أصبحت منظومة موازية تنافس مؤسسات صحفية وتلفزيونية عريقة.
وتضم هذه المنظومة شخصيات تحظى بشعبية، بينهم مخضرمون في تقديم محتوى شيق، وصحافيون محكومون في مؤسساتهم بسياسة تحريرية محاطة بالمحاذير، واضطروا إلى جعل صفحاتهم الشخصية على منصات التواصل نافذة لهم.
ويمتلك بعض الصحافيين المؤثرين على شبكات التواصل حسابات أكثر جماهيرية ومتابعة من الصحيفة التي يعملون فيها، وبدلا من أن يحصل الناس على المعلومة والتفسير والتحليل من المنبر، يحصلون عليها من صفحات هؤلاء دون حاجة إلى زيارة موقع الجريدة.
وقال خبير الإعلام الرقمي خالد برماوي إنه حضر اللقاء الأخير مع المؤثرين في إطار حملة تدشنها وزارة المالية لتطوير عوائدها الضريبية، حرصت أن تكون بمشاركة خبراء في مجال التواصل الرقمي، وتعريف هؤلاء برؤية الوزارة وتبسيط رسائلها للمواطنين العاديين، وتنبع أهمية الخطوة من كون الجهة الحكومية لم تتجاهل تأثير البلوغر والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأضحت أكثر تفاعلا معهم.
الجمهور المصري يولي اهتماما بمشاهير ومؤثرين معروفين على مواقع التواصل
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن توجهات الحكومة تبرهن أنها تهدف إلى سد أيّ فجوات تجعلها غير قادرة على التواصل بشكل إيجابي مع الجمهور مع تزايد معدلات مشاهدة المواطنين للمنصات الرقمية وقضاء أوقات كبيرة في متابعتها يوميا، وأنها تعمل على فتح قنوات اتصال مؤسسي مع الإعلام الرقمي ويتماشى ذلك مع توجهاتها نحو الاستثمار على نحو أكبر في الإعلام الرقمي من خلال توجيه الوزارات الخدمية نحو الاستعانة بمتخصصين في هذا المجال.
وأشار إلى أن الحكومة المصرية لم تكن لديها إستراتيجية بشأن التواصل مع هذه الفئات من الجمهور، والآن هناك تطور ملحوظ في أداء صفحات الوزارات على المنصات الرقمية، ويتزامن ذلك مع تعزيز التواصل مع المؤثرين، وتعمل على أن يكون خطابها الإعلامي بيد كفاءات لديها القدرة على التفاعل مع الأجيال الصاعدة.
وغاب عن الحكومة وهي تعتمد على شريحة من المؤثرين، بدلا من الإعلام التقليدي، أن هذه الفئة من صناع المحتوى لم تخترع العجلة أو تمتلك عصا سحرية لاستقطاب الجمهور إليها بأعداد كبيرة، وكل ما في الأمر أن لدى هؤلاء المؤثرين سياسة تحريرية مستقلة ولا أحد يتدخل في ما يتم بثه للجمهور، ويوفرون احتياجات متابعيهم.
ولا توجد جهات عليا تحدد القضايا والموضوعات التي يناقشها كل صاحب محتوى مؤثر على شبكات التواصل، بعكس الإعلام التقليدي الذي يخضع لمعايير وتدخلات تُصعّب من مهمة تحرره بشكل مطلق، كي يُقدم إلى الجمهور ما يحتاجه من معلومات وتفسيرات وتحليلات منطقية، مع رصد الشكاوى ونشرها.
خطوة الاستعانة بمؤثرين للترويج لخطط حكومية أثارت تذمرا عند بعض الصحافيين، وبدت رسالة سلبية توحي بتراجع دورهم كوسطاء بين الوزارات المختلفة والشارع
ويرى خبراء أن الهيئات الإعلامية المعنية بإدارة المشهد في مصر ما لم تنتبه إلى خطوة استمرار صناع المحتوى وإعلام الأفراد في جذب أكبر شريحة جماهيرية، فإن الإعلام التقليدي سيجد صعوبة في المستقبل القريب لمنافسة شبكات التواصل، مهما تحلل من القيود وأصبح حرا في أن يقول ما يشاء.
ويشير هؤلاء الخبراء إلى أن الحكومة لم تعد لديها رفاهية من الوقت لتعيد النظر بواقعية في الأسباب التي قادت إلى ارتفاع نجم شريحة من المؤثرين على مواقع التواصل، مقابل تهاوي جماهيرية مؤسسات صحفية وقنوات تلفزيونية لديها جيوش من الصحافيين الأكفاء، يُساء استغلالهم أو يتم تقييد تحركاتهم.
وأكثر ما يميز صناع المحتوى في مصر أنهم يتحدثون في قضايا لا يتم التطرق إليها في الإعلام التقليدي، ولأن الممنوع مرغوب فإنهم يحققون شعبية عبر نقاش موضوعات شائكة، وإذا أذاع واحد منهم خبرا متداولا في صحيفة أو قناة كبرى يحقق معدلات مشاهدة تفوق ما حققته الصحيفة والقناة.
وإذا كان هناك متابعون بالملايين على صفحات رسمية لصحف ومواقع إخبارية على فيسبوك مثلا، فإن التفاعل بالتعليقات ومشاركات المحتوى المنشور قد لا يتخطى العشرات وأحيانا المئات، ما يصعب فصله عن تقليدية التسويق وسطحية المحتوى وغياب الحد الأدنى من عوامل جذب الجمهور.
ويقود ذلك إلى أن المؤثرين في كل ملف باتوا أقرب إلى منصات خبرية وإن أعادوا تقديم ما يُبث في الإعلام التقليدي، والعبرة في الأسلوب وطريقة العرض بشكل مبتكر وجذاب، وبينهم من لديه قاعدة علاقات تسمح له بالحصول على معلومات حصرية، بينما يُعاني الصحافي التقليدي من الوصول إلى خبر حقيقي.
ويؤخذ على الكثير من المؤسسات الصحفية والبرامج التلفزيونية في مصر أنها لم تُدرك بعد طبيعة المحتوى الذي يبحث عنه رواد المنصات الاجتماعية، ونسبة كبيرة شغوفة بمطالعة أخبار قضايا لها قيمة وتتناسب مع تطلعاتها من الإعلام، بعيدا عن التحول إلى صدى صوت للحكومة ونشر البيانات الرسمية.
وتزداد خطورة إعلام صناع المحتوى عندما تُحجب المعلومات وتضيق القيود على التحليل والتفسير في المنابر التقليدية، فيلجأ الناس إلى المؤثرين الذين ملأوا الفراغ العام، وهو واقع يؤكد أن أخطر شيء على الوسيلة الإعلامية أن تستمر خاضعة لأجندات بعينها في عصر التكنولوجيا.
وأمام هذا المشهد، أصبح لزاما على الإعلام التقليدي أن يتكيف مع مستجدات المهنة والمنافسة المتسارعة مع شبكات التواصل ويركز على تلبية تطلعات الجمهور وليس أجندة الجهات المالكة، ويتوقف ذلك على توافر إرادة حكومية قبل فوات الأوان.