اخبار الإقليم والعالم
صناعة الدفاع الأوروبية المتعثرة أمام فرصة حاسمة لاستعادة زخمها وتوسيع قدراتها
أدّى التحول المتطور في السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى أكبر إعادة تقييم للسياسة الدفاعية الأوروبية منذ سقوط جدار برلين. فقد احتضن الرئيس دونالد ترامب روسيا، وسحب المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وكثّف الضغط بشكل كبير على أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأوروبيين لزيادة التزاماتهم المالية تجاه الحلف، ممّا أثار مخاوف الحلفاء بشأن موثوقية الولايات المتحدة كشريك أمني.
ودفعت نهاية الحرب الباردة إلى خفض الإنفاق الدفاعي الأوروبي مع تراجع خطر التهديدات العسكرية المباشرة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. وأدت أحداث 11 سبتمبر 2001 إلى ظهور تهديد جديد، لكن معظم الدول الأوروبية، على عكس الولايات المتحدة، لم تلتزم بزيادة كبيرة في ميزانيات الدفاع، وركّزت بدلاً من ذلك على بناء القدرات المتخصصة.
وبدا أن الديناميكية قد تغيرت بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وبشكل أكبر بعد الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022، والذي كشف أيضًا عن حدود جاهزية الصناعة الدفاعية للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، تُمثّل الالتزامات الأخيرة للدول الأوروبية بالإنفاق الدفاعي التحول الأكثر حسمًا عن الاتجاهات السابقة.
وفيما يُوصف بـ”اللحظة الفاصلة”، اتفق قادة 26 دولة في الاتحاد الأوروبي على تخصيص مبلغ غير مسبوق قدره 800 مليار يورو للإنفاق العسكري لتحقيق الاكتفاء الذاتي الدفاعي على المدى الطويل. كما أعلنت عدة دول عن خطط طموحة لتوسيع ميزانياتها العسكرية. وتوصل المستشار الألماني المحتمل، فريدريش ميرز، إلى اتفاق تاريخي مع حلفائه السياسيين، ممّا قد يُمكّن ألمانيا من تخصيص ما يصل إلى تريليون يورو للدفاع والبنية التحتية على مدى العقد المقبل.
◙ متطلبات الإنفاق العسكري المتزايدة تمثل الآن معضلةً صعبةً للحكومات، لاسيما تلك التي تعاني من مستويات ديون عالية
ومن الأمثلة الأخرى، على سبيل المثال، إعلان الدنمارك عن صندوق تسريع الدفاع بقيمة 7.2 مليار دولار، والتزام المملكة المتحدة بزيادة ميزانيتها الدفاعية إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، واستهداف 3 في المئة في نهاية المطاف، وهدف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفع الإنفاق الدفاعي إلى 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وترى زهرة نيازي، باحثة في مركز دراسات الفضاء والأمن، في تقرير نشره موقع مودرن بوليسي أنه بعد عقود من نقص الاستثمار، يُتيح هذا التحول فرصةً حاسمةً لصناعة الدفاع الأوروبية المتعثرة لاستعادة زخمها وتوسيع قدراتها. وأعلنت شركة راينميتال، إحدى عمالقة الدفاع في أوروبا، بالفعل عن خططٍ لإعادة توظيف اثنين من مصانعها للسيارات في ألمانيا لإنتاج سلع عسكرية.
واستحوذت شركة كاندس الألمانية الفرنسية المشتركة على مصنعٍ تاريخي لعربات السكك الحديدية لإنتاج مكونات المركبات العسكرية. وبالمثل، دخلت شركة بايكار التركية وشركة ليوناردو الإيطالية في شراكةٍ لإطلاق مشاريع مشتركة لإنتاج الطائرات دون طيار.
وتُدرك العديد من الجهات الفاعلة الأخرى في مجال الدفاع هذه الفرصة الواعدة. وبينما أعطى الاتحاد الأوروبي الأولوية لنهجٍ أوروبيٍّ في المشتريات الدفاعية، فإن الشركات الأميركية، وخاصةً تلك المتخصصة في الأنظمة المتطورة، ستستفيد ما لم تتحرك هذه الدول لاستبعاد المعدات الأميركية.
ومع ازدياد قوة صناعة الدفاع الأوروبية بمرور الوقت، قد تفقد الشركات الأميركية تدريجيا موطئ قدمها في سوقٍ لطالما عُرفت بالاستقرار والموثوقية. وفي حين أن التفاؤل الأولي مرتفع، فإن مدى تحول هذه الصناعة سيُحدّد في نهاية المطاف بعدة عوامل، منها مدى نجاح الاتحاد الأوروبي في تنفيذ التزاماته المتعلقة بالإنفاق.
وتُمثل متطلبات الإنفاق العسكري المتزايدة الآن معضلةً صعبةً للحكومات، لاسيما تلك التي تعاني من مستويات ديون أعلى نسبيًا، مثل فرنسا والمملكة المتحدة وبلجيكا، إذ يتعين عليها إما زيادة الضرائب غير المرغوب فيها سياسيًا، أو خفض النفقات من مجالات مهمة أخرى، أو زيادة الاقتراض. وفي بعض الدول، بدأت الانقسامات السياسية بالظهور بالفعل. وعلى سبيل المثال، أثار تحذير الرئيس ماكرون من اتخاذ قرارات ميزانية صعبة لتعزيز الإنفاق الدفاعي جدلًا سياسيًا في فرنسا.
وقوبل عرض رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز لتعزيز الإنفاق الدفاعي بتردد حتى من بعض حلفائه. كما أن المشاعر في الشارع الأوروبي متباينة، مما يطرح أسئلةً صعبةً على صانعي السياسات. وحتى لو تم تأمين الدعم السياسي الآن، فإن الحفاظ عليه قد يكون صعبًا، لاسيما إذا تضاءلت الحاجة الملحة لإعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي في حال انتهاء الحرب في أوكرانيا.
وتُبرز مبادرات مثل صندوق الدفاع الأوروبي، الذي أُنشئ عام 2017 لتعزيز مشاريع الدفاع المشتركة بين دول الاتحاد الأوروبي، إدراكًا متزايدًا بأن الأمن الفعال يتطلب أيضًا تعاونًا أوروبيًا داخليًا أعمق. ومع ذلك، لا تزال صناعة الدفاع الأوروبية “مجزأة” للغاية. فخلال الحرب الباردة، استثمرت دول أوروبا الغربية بكثافة في صناعاتها الدفاعية المحلية، إلا أن شركاتها واجهت صعوبة في مواكبة حجم نظيراتها الأميركية.
وأدت تجزئة قطاع الدفاع إلى ارتفاع تكاليف الوحدات، وجهود بحث وتطوير زائدة عن الحاجة، وانتشار المعدات غير المتوافقة. وسيكون الاختبار الحقيقي للقيادة الأوروبية هو قدرتها على التعلم من أخطاء الماضي وإيجاد نهج يقلل من تبعات زيادة الإنفاق الدفاعي، بما في ذلك تأثيره على النفقات الاجتماعية.
وإلى جانب التغلب على التشرذم الصناعي، طُرحت حلول مختلفة، بما في ذلك جذب رأس المال الخاص، والاستثمار في التقنيات ثنائية الغرض، وتوسيع تعريف نفقات الدفاع ليشمل مجالات مثل الأمن السيبراني، أو استكشاف المزيد من الاقتراض المشترك على مستوى الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أيضًا أن يضاعف بنك الاستثمار الأوروبي تمويله لمشاريع الدفاع مرتين أو ثلاث مرات بحلول عام 2035.
ويُمثّل التوسع الدفاعي الأوروبي فرصًا ومخاطر في آنٍ واحد. ومن خلال التركيز على بناء القدرات بدلًا من انتشار الأسلحة، وإعطاء الأولوية للتفاعل الدبلوماسي، بالإضافة إلى التعاون الداخلي والخارجي، يُمكن تعزيز الأمن وتسريع الابتكار الدفاعي دون زعزعة الاستقرار العالمي وتصعيد سباق التسلح.