اخبار الإقليم والعالم
هيئة تحرير الشام تجعل سوريا على صورتها
توّجت الثورة السورية بالنصر في 8 ديسمبر 2024 بعد أكثر من 14 عاما من النضال والتضحيات. ومباشرة بعد ذلك، أعلن أبومحمد الجولاني، الذي اعتمد رسميا اسمه الحقيقي أحمد الشرع، انتهاء الثورة. وحوّل تركيزه سريعا من الأهداف الثورية إلى ترسيخ السيطرة على الدولة والتمكين لهيئة تحرير الشام التي سعت لأن تشكل سوريا على طريقتها وعلى الصورة التي تريدها، في غياب معارضة واضحة وتحت وطأة خوف السوريين من عودة نظام بشار الأسد.
ولا يزال أكثر من ثلث سوريا خارج سيطرة الشرع بعد 100 يوم من قيادته، ويفتقر نصف البلاد إلى وجود عسكري أو أمني قوي. ومع ذلك، أظهر المجتمع السوري وعيا واستعدادا كبيرين للبناء من جديد. وسهّل هذا انتقالا كان سلسا نسبيا من حكم الأسد إلى الحكومة الجديدة، واتسم بقلة الإبلاغ عن العنف أو الانتقام حتى 6 مارس. ولا تزال العديد من البلدات والقرى تعمل بشكل مستقل، ويبقى معظمها غير متأثر بسلطة دمشق، حتى من الناحية الأمنية.
ويرى تقرير لموقع سيريا إن ترانزيشن (سوريا في طور الانتقال) أن جهد بناء الدولة، الذي حظي بإشادة واسعة، ساهم في تعزيز هيمنة هيئة تحرير الشام، وإن كان هذا إلى حد كبير على حساب الدولة، مُحاكيا بذلك نموذج حكومة الإنقاذ السورية بإدلب من حيث العقلية والمنهجية.
◄ الشرع عين شقيقه وزيرا للصحة، وشغل أفراد من عائلته وأقارب زوجته مناصب أخرى، مما يثير ذكريات المحسوبية في عهد الأسد
وينعكس هذا النمط في تشكيل حكومة تصريف الأعمال. فبعد يومين فقط من سقوط الأسد، احتفظت بجميع وزراء حكومة الإنقاذ السورية إلى جانب رئيس الوزراء. وشملت التعيينات اللاحقة وزير الخارجية أسعد الشيباني، الذي ترأس سابقا العلاقات الخارجية لهيئة تحرير الشام، وشارك في تأسيس جبهة النصرة، وكان سابقا من داعش.
وبرز كذلك وزير الدفاع مرهف أبوقصرة، القائد السابق للجناح العسكري لهيئة تحرير الشام. وأُسندت مهام الاستخبارات إلى أنس خطاب (المعروف أيضا بلقب أبوأحمد حدود)، الذي كان يقود جهاز الأمن العام التابع لهيئة تحرير الشام، وكان عميلا سابقا لتنظيم القاعدة.
وشملت التعديلات الوزارية الطفيفة تعيين ماهر الشرع، شقيق أحمد الشرع الأكبر، وزيرا للصحة، بينما شغل أفراد من عائلته وأقارب زوجته مناصب أخرى، ممّا يثير ذكريات المحسوبية التي سادت في عهد الأسد.
وتتجلى سلطة هيئة تحرير الشام الراسخة على مستوى المحافظات. ويشغل أفرادها جميع مناصب المحافظين بخلاف حلب واللاذقية وريف دمشق، حيث عُيّن متحالفون مع الهيئة من فصائل إسلامية أخرى.
وتضم كل محافظة الآن “مسؤول إدارة سياسية”، يشغل مهام كانت لكبار أعضاء حزب البعث. وقد أدّى هذا التحول إلى تداخل في المهام ونزاعات على السلطة بين المحافظين والمفوضين، وجميعهم ينتمون إلى هيئة تحرير الشام. ويشرف أفراد الأمن بشكل روتيني على تعاملات المحافظين مع الجهات المعنية المحلية والمنظمات غير الحكومية، مما يُذكّر بأساليب المراقبة في عهد الأسد.
وكان هذا السيناريو متوقعا إلى حد كبير، فغالبا ما تقاوم أجهزة الدولة والبيروقراطيات الإصلاح بغض النظر عمّن يقودها. وسيتطلب تجنب التكرار التاريخي في حالة سوريا، بهياكلها المؤسسية الضخمة، مهارة وخبرة كبيرتين. وقد يجد الشرع صعوبة في تحقيق هذا الأمر مما يُخاطر باستمرار الإحباط العام.
وتُعطي هيئة تحرير الشام الأولوية لأعضائها في المناصب الرئيسية في البلديات والموانئ والمطارات والإدارة المدنية، مع وجود تعيينات قائمة على الجدارة أحيانا. ولم يُقتلع الفساد، حيث تحصل الشركات المرتبطة بهيئة تحرير الشام بانتظام على عقود حكومية، خاصة في قطاعات مثل الصرف الصحي والنقل والاتصالات، وقريبا الوقود والبناء.
وأُعلن حتى الآن عن 20 فرقة عسكرية، ومعظمها موجود اسميا فقط. وتشغل شخصيات من هيئة تحرير الشام أدوارا قيادية في مختلف القوات المسلحة، بينما مُنحت بعض المناصب لجماعات متحالفة معها مثل أحرار الشام والزنكي وأنصار التوحيد. وقد أثارت بعض التعيينات جدلا، بما في ذلك اختيار محمد الجاسم من فصيل العمشات (فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لانتهاكاته حقوق الإنسان) قائدا للفرقة 25 في محافظة حماة التي لم تُشكّل بعد. ويكشف الاندماج المحدود للجماعات المسلحة الثورية غير الموالية مباشرة للشرع (وخاصة الجيش الوطني السوري) انعدام ثقة متجذر.
وبدلا من ذلك، أعطت هيئة تحرير الشام الأولوية لبناء قوات الأمن الداخلي. وحل الشرع الهيكل الأمني السابق في 29 يناير، وسرعان ما تولى القادة المرتبطون بهيئة تحرير الشام السيطرة على أهم عناصر النظام الجديد، أي الشرطة والأمن العام والمخابرات. وبينما تعكس وحدات الشرطة عموما السكان على نطاق أوسع، تحتفظ هيئة تحرير الشام بالسلطة الحصرية على الأمن العام ومديرية المخابرات العامة التي يرأسها أفراد اتُهموا سابقا بارتكاب انتهاكات في إدلب، بمن فيهم رئيس جهاز الاستخبارات السورية أنس خطاب.
◄ أكثر من ثلث سوريا لا يزال خارج سيطرة الشرع بعد 100 يوم من قيادته، ويفتقر نصف البلاد إلى وجود عسكري أو أمني قوي
وفي 6 مارس، أشعلت فلول نظام الأسد تمردات عنيفة في المدن الساحلية، مما تسبب في خسائر فادحة في صفوف أفراد الأمن. وردت الفصائل المسلحة في جميع أنحاء سوريا بدعم القوات التي تقودها هيئة تحرير الشام، مما أدى إلى إعدامات وعمليات ونهب وقتل مدنيين وغير ذلك من الانتهاكات. وأدانت حكومة الشرع ما وصفته بـ”تجاوزات” المتطوعين المدنيين، إلا أنها تجنبت إلقاء اللوم أو فرض عقوبات على قوات الأمن، رغم أدلة الفيديو الواضحة التي تُظهر تورط أفراد ينتمون لهيئة تحرير الشام. ووافق الشرع شخصيا على استخدام المروحيات لإسقاط قنابل غير موجهة، وبدا أنه يقبل عمليات القتل الانتقامية، معتبرا إياها وسيلة لتفريغ الغضب الشعبي مع تأجيل حل أسبابه الكامنة.
واختلف الشرع عن الأسد وقادة المناطق الآخرين، حيث لم يعتمد على نشر الملصقات أو الصور الشخصية عبر البلاد لإبراز سلطته وحضوره. وتتجلى عبادة شخصيته على وسائل التواصل الاجتماعي (المجال العام الحديث) وفي ترسيخه الشخصي لسلطته.
كما دأب على إبقاء القرارات العسكرية ضمن دائرة ضيقة. وتولى القيادة المباشرة للعمليات العسكرية قبيل حملة نوفمبر التي أطاحت بالأسد، لضمان بقاء الفضل في النصر له.
ولم يُنشئ مؤتمر النصر، الذي عُقد على عجل في 29 يناير، مجلسا أو هيئة تشريعية انتقالية، بل عيّن الشرع رئيسا مؤقتا. وكان من المقرر دمج الجماعات الثورية والهيئات المدنية السياسية في مؤسسات الدولة، مما يضع حدا لتقليد إدلب العريق في الحكم الثوري الطائفي.
وظهرت بوادر الاستبداد أيضا خلال مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد على عجل عمدا لإقصاء الأصوات المعارضة من الخارج.
وتعاني العديد من الوزارات، وأبرزها الخارجية، من مركزية مفرطة، حيث يحتاج الوزراء في الكثير من الأحيان إلى موافقة الشرع أو الشيباني حتى في أبسط الأمور. ومن المرجح أن يُورّط هذا الخلط بين الاحتكار ومركزية الدولة في البيروقراطية، ويُعيد إنتاج حكم الأسد غير الفعّال، ويُحوّل في نهاية المطاف حسن النية الأولي إلى استياء شعبي. وفي النهاية، قد يفقد الشرع القدرة على إلقاء اللوم على النظام العلوي السابق.
ويتوقع تقرير موقع سيريا إن ترانزيشن أن يتواصل في المستقبل القريب هذا التركيز على السلطة، مع استمرار الشرع في اتخاذ قرارات رئيسية خلال فترة نشوة ما بعد الأسد التي تُقيّد المساءلة. وستحافظ هيئة تحرير الشام على هيمنتها في المناصب الأساسية.
ومُددت المرحلة الانتقالية بالفعل إلى خمس سنوات بموجب إعلان دستوري، مما يُمكّن تدريجيا من حلّ الهيئات الثورية (الجماعات المسلحة والمجالس المحلية والمنظمات المدنية) ويمنع فعليا ظهور بدائل سياسية أو مدنية قوية داخل الطائفة العربية السنية قد تُشكّل تحديا لسيطرة الشرع على السلطة. حتى لو بدت الحكومة الجديدة شاملة وحصلت على دعم شعبي، سيحتفظ المفوضون السياسيون لهيئة تحرير الشام، المندمجون في جميع المستويات، بالسيطرة الفعلية.
وقد يُؤخّر عمدا انبعاث النشاط السياسي (الأحزاب، والحوار الحر، والإعلام، والانتخابات) بما سيسمح للعرب السنة التابعين لهيئة تحرير الشام بالحفاظ على سلطتهم لأجيال. ومع ذلك، إذا تدهورت الظروف، فقد يُعاني العرب السنة من العواقب، حيث يصبح مستقبلهم السياسي رهنا بنجاح الشرع أو فشله.
وإذا استمرت العقوبات وظلت المساعدات الدولية معلّقة، فستتدهور الأوضاع الاقتصادية أكثر، مما سيُعمّق حتما الاستياء الشعبي.
ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت المجازر في المناطق الساحلية ستدفع الشرع إلى تغيير أسلوب قيادته، أو اعتماد حوكمة أكثر شمولية، أو بذل جهود عدالة انتقالية حقيقية.
ويحذر تقرير موقع سيريا إن ترانزيشن من أنه على الشرع وداعميه الإقليميين أن يُدركوا خطر تكرار تجربة سوريا الأسد باللّحى بدل الزي العسكري. ويجب أن يدركوا أن طموح الشرع إلى ترسيخ الحكم السني لا يمكن أن ينجح إلا من خلال إصلاحات حكومية جوهرية تُركز على كفاءة البيروقراطية والحوكمة، والسياسة الشاملة والمشاركة العامة، ونهج متسامح تجاه أقليات سوريا لضمان شعور جميع شرائح المجتمع بمصلحة المساهمة في مستقبل البلاد. ولا يزال الوقت يسمح بتغيير في الاتجاه، لكن هذه الفرصة تتلاشى بسرعة.