ثقافة وفنون
لماذا تحتفظ أفلام الحرب بجاذبيتها
كانت الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) حدثا جبارا زلزل العالم وفقدت فيه البشرية عشرات الملايين من الجنود والمدنيين فضلا عن دمار هائل شمل العديد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية، وخلال ذلك كانت النازية وصعود نجم الرايخ الرابع بزعامة هتلر هي العلامة البارزة في ذلك.
ومنذ انفضاض تلك الحرب وحتى الساعة بقيت قصصها حاضرة بشكل ملفت للنظر، وظلت شركات الإنتاج السينمائي تنفق الملايين سنويا من أجل إنتاج أفلام تقع أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية أو ما قبلها أو أنها تقارب قصصا إنسانية واجتماعية تتعلق بضحايا الحرب.
وعلى هذا كانت أجواء الحرب تنطوي على قصص ملهمة ومؤثرة، حتى إن هنالك من بين النقاد السينمائيين من أحصى أفضل الأفلام السينمائية التي أنتجت إبان الحرب أو ما بعدها، نذكر منها فيلم “أجمل سنوات حياتنا” الذي أنتج عام 1946 وهو يعد من بين أهم أفلام المخرج المعروف وليم وايلر، يقابله المخرج الإنجليزي ديفيد لين في فيلمه الشهير “جسر على نهر كواي” الذي أنتج في العام 1946، ثم فيلم “كازابلانكا” الشهير للمخرج مايكل كورتز، ثم يبرز المخرج الألماني فرتيزلانج في فيلمه “الارتفاع الكبير” ويضاف إليه المخرجون جون فورد وفريد زينمان وتيرينس يونغ وبيلي وايلدر وراؤول والش وروربرت بريسون ولويس جلبرت وروبرت روسيليني وغيرهم.
يقول الموقع الرسمي الذي يوثّق للحرب العالمية الثانية في ولاية أورليانز الأميركية إن في سنوات حكم الرئيس الأميركي فرانكلين روزفيلت الممتدة بين 1933 و1942، حرص على تشجيع هوليوود على إنتاج المزيد والمزيد من الأفلام عن الحرب العالمية الثانية، وسخّر من أجل ذلك ما عرف بمكتب المعلومات الحربية والمعروف اختصارا بـ OWI المرتبط به لتقديم كافة المعلومات والمساعدة لأي جهة تقوم بإنتاج فيلم عن تلك الحرب وكان على صلة وثيقة مع أستوديوهات الإنتاج السينمائي.
والحاصل أن عجلة الإنتاج السينمائي لم تتوقف منذ أربعينات القرن الماضي حتى اليوم عن إنتاج المزيد والمزيد من الأفلام التي تدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية أو تستمد منها.
إن الوعي والذائقة والثقافة الشعبية قد تشابكت كلّها في فهم طبيعة الفيلم الحربي، ولهذا كانت هنالك الكثير من الأفلام التي أدرجت في إطار أفلام التعبئة والدعاية الحربية مقابل تلك الأفلام التي قدمت قصصا إنسانية وواقعية، ولهذا يمكن إدارج أفضل عشرة أفلام في كل حقبة زمنية أو عقد من الزمن ابتداء من الخمسينات وحتى يومنا هذا.
وها هي السينما الألمانية تمضي هي الأخرى في نفس مسار السينما الهوليوودية في تقديم أفلام تلك الحرب ومنها فيلم “بلوود أند غولد” (دماء وذهب) للمخرج بيتر ثورراث وهو مخرج ألماني من مواليد 1971 وله عشرة أفلام روائية طويلة.
يبدأ هذا الفيلم بصرخة إدانة ضد الحرب العالمية الثانية من خلال ملاحقة الجندي الهارب هاينريش – يقوم بالدور الممثل روبرت ماسر – من طرف كتيبة من الجيش النازي يترأسهم جنرال تهشّم جانب من وجهه من جراء عملية حربية وصار يخفي الجانب الآخر بقطعة من الجلد، وهنا على امتداد تلك الطبيعة المفتوحة سوف تتكرّر صورة النازي التي سبق وشاهدناها في العشرات من الأفلام، لكن في مقابلها صورة الجندي المتمرّد الشجاع الذي لن يتردّد وهو على حافة الهاوية ويواجه تنفيذ حكم لإعدامه في قول الحقيقة والتي كانت السبب وراء هروبه: “إني لم أرد يوما هذه الحرب، لم يأخذ أحد رأيي، لقد ألبسوني هذا الزي وقاتلت على أيّ حال، طوال ستّ سنوات عديمة المعنى، لقد سئمت هذا الجنون.”
أما الجنرال فسوف يرد عليه قائلا “لا تزال أمامنا معارك كثيرة ولا بد أن نقاتل وننزف ونتألّم ونموت، فدم الآريين يسري في عروقك وصدرك عامر بالنياشين لكنك عار وجبان وخائن.”
وفيما يردد الجنرال مقولة “نحن أمة المنتصرين”، يردد الجندي الهارب والمتمرد مقولة “بل نحن أمة القتلة.”
ليس مستغربا في وسط هذه الدراما الفيلمية أن نقرأ تقييمات نقاد لامعين لهذا الفيلم في كونه يندرج في نوع تلك الأفلام التي تبحث عن منعطفات ومواقف إنسانية قد تكون مجنزرات الحرب العملاقة قد مرّت عليها وداستها بشراسة ومن دون رحمة، وهو ما يذهب إليه الناقد بيتر سوبزينسكي في موقع “روجر ايبيرت” والناقدة ليسلي فيلبيرن في صحيفة “الغارديان” البريطانية والناقد أولي ديتش في موقع “موفي ويب” وغيرهم، والحاصل أن من بين ذلك ولادة قصص الحب من رحم الصراع والقتل ودخان الحروب ومساحة الظلم الهائلة والبطش الذي يلحق بالفئات الأكثر ضعفا كالنساء والمسنين والمعاقين، وهو ما قدمه هذا الفيلم من خلال شخصية القس الكهل الذي أهين وتم التنكيل به ثم قتل في مقابل إلسا وشقيقها المعاق.
ومن بين الأفلام الحديثة التي عالجت جانبا آخر من جوانب الحرب هو فيلم “ويل” للمخرج البلجيكي تيم ميلانتس وهو نفسه كاتب السيناريو مع آخرين. في هذا الفيلم نحن لسنا بصدد معارك ضارية وقصف مدمر وخراب وجراح وآلام بل بصدد آثار السيطرة الألمانية على المدينة البلجيكية أنتويرب ذات الأهمية الاستثنائية من بين المدن الأخرى، هنالك عمليات الثأر الاجتماعية والنفسية والطريقة التي تعاطى بها النازيون مع سكان المدينة الآمنين، ومن جهة أخرى استخدام الشرطة المحلية للمدينة لكي يسندوا أعمال الترويع النازية التي طالت بالطبع بعض العائلات اليهودية فيما طاردت النازية الشيوعيين أينما كانوا.
في وسط هذه الأجواء القاتمة والمشحونة سوف تبرز شخصية ويلفريد أو ويل – يقوم بالدور الممثل غيروين أوليسلايجرز – هذا الشباب اليافع الذي ساقته الأقدار كي يعمل شرطيا في مدينته أنتويرب يجد نفسه هو وزميله لود – يقوم بالدور الممثل ماتيو سيموني – في مواجهة ضابط نازي يسعى للقبض على شيوعيين ويهود وهما الفئتان الأكثر تعرضا للكراهية والبطش النازي، ولهذا فإنه يرغب في استخدام أفراد من الشرطة المحلية لإسناد المهمة، فيختار ويل وصديقه لود لكن مواجهة تحت أمطار شديدة سوف تقع وتنهي حياة الضابط النازي لتبدأ رحلة خوف لا تنتهي.
هذا المدخل وبناء السرد الفيلمي على فكرة الجريمة وما يتبع ذلك من تحر يحيلنا إلى منطقة أخرى أكثر منطقية وواقعية وتتعلق بالبحث عمن اقترف جريمة قتل الضابط النازي، مما يجعل المدينة برمتها تحت طائلة الاتهام والشك وهو ما سوف يظهر من خلال العديد من المشاهد فضلا عن الغارات الليلية ضد السكان.
على الجانب الآخر ومن بين الأفلام الحديثة أيضا في هذا المجال “فيلم الرامي الأخير” للمخرج تيري لوان، الذي يعرض في صالات السينما الآن وهو يقدم مقاربة إنسانية مؤثرة غير مباشرة لقصة الحرب مستندا إلى إنزال النورماندي الشهير.
هذه المقاربة المختلفة تتعلق بواحد من المحاربين من أيرلندا حيث يعيش آرتي كروفورد – يقوم بالدور الممثل بيرس بروسنان – وها نحن نشاهده وهو نزيل في إحدى دور رعاية المسنين، فالرجل يقف وهو في شيخوخته بحاجة إلى أن يتذكر الأحداث التي لا يمكن نسيانها والتي أثرت فيه وتغلغلت في بناء شخصيته، وهما في الواقع حدثان متزامنان وجدانيا، وهما انخراطه جنديا ضمن الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية وعلاقته بماجي – الممثلة ستيلا ماكوسكر – التي صارت زوجته فيما بعد.
الحب والحرب يتزامنان ويحفران عميقا في شخصية آرتي ولكن ها هو يودع زوجته في دار رعاية المسنين وقد لفظت أنفاسها، وبهذا لم يبق له سوى ذكريات الحرب ووجوه أصدقائه التي تحوم من حوله من خلال سلسلة من مشاهد الفلاش باك، فتارة يلتقط أحدهم صورة له ولصديقته وهما في ريعان الشباب وتارة تتوالى صرخات الجنود المحاربين.
هذا البناء السردي هو الذي تم التأسيس عليه في تقديم قصة إنسانية عاطفية مؤثرة فيها العديد من المحطات التي تعيد إلى الذاكرة مأساة ضحايا الحروب واكتشاف آرتي أنه ليس إلا المحارب الأخير بين أولئك المحاربين الذين قرر أن يتفقدهم بمناسبة مرور 80 عاما على إنزال النورماندي.
إنه الهجوم الذي نفذته القوات الأميركية والبريطانية والكندية من خلال ما عرف بعلمية “أوفرلورد” بشمال غرب أوروبا، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الجنود المتدفقين على سواحل النورماندي قادمين من 15 دولة، وها نحن من خلال شخصية آرتي نسترجع قصة أكبر عملية إنزال في التاريخ العسكري، شنها الحلفاء في السادس من يونيو 1944 انطلاقا من بريطانيا، على سواحل منطقة النورماندي شمال غربي فرنسا، لفتح جبهة جديدة ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وشارك فيها أكثر من مليوني جندي و300 ألف مركبة عسكرية.