اخبار الإقليم والعالم
تزايد الحضور الإيراني في شرق أفريقيا معضلة وجب تفكيكها
أضحت منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر ساحة كبيرة للتنافس بين إيران والقوى الإقليمية، لاسيما إسرائيل وتركيا، وهو ما دفع الكثير من المراقبين والخبراء إلى الجزم بأن البحر الأحمر مرشح في المرحلة المقبلة ليكون حلبة جديدة لمواجهات مسلحة إقليمية دولية.
يهدف كتاب “النفوذ الإيراني في القرن الأفريقي والبحر الأحمر السياقات والتداعيات” للباحثة نجلاء مرعي أستاذة العلوم السياسية، والخبيرة بالشؤون الأفريقية، ليس فقط لمعالجة مظاهر وحجم النفوذ الإيراني الناعم في دول شرق أفريقيا والبحر الأحمر، مع استشراف آفاق هذا النفوذ، بل وأيضا إبراز التوجه العربي والخليجي بالاهتمام بمنظومة الأمن في البحر الأحمر، لما تمثله من أهمية إستراتيجية للأمن القومي العربي، كما يطرح الكتاب أيضا قضية انعكاسات التنافس الإقليمي على الأمن الجيوسياسي للقرن الأفريقي والبحر الأحمر.
تؤكد مرعي في كتابها الصادر عن دار العربي أن منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي تعد دائرة حركة مهمة للسياسة الخارجية الإيرانية التي تهدف لتوسيع نطاق نفوذها، ووجدت إيران أنها تستطيع تحقيق بعض المكاسب في تنافسها مع الغرب عن طريق الاصطفاف مع مجموعة واسعة من دول المنطقة، وذلك من أجل عدم عزلتها والتصويت ضدها في المنظمات الدولية. وتتبنى إيران عدداً من الأهداف والأدوار في سياستها الخارجية، لجهة الحفاظ على سيادتها، وتأمين أمنها في مواجهة التحديات الخارجية.
تعتمد إيران ما يسمى بالجهاد البحري، ويعني انتهاج سياسات تمكن الدولة من السيطرة أو الوجود القوي بالقرب من الممرات الملاحية، تحسباً لأي مواجهة عسكرية تهدد مصالحها، وتسهل وصول إيران إلى مناطق الأزمات في المنطقة، عبر تأمين وجود في منطقة شرق أفريقيا، باعتبارها إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لها في مواجهتها للقوى الغربية، وخاصة إسرائيل، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام قتالية ضد القوى الغربية إذا ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية.
المنطقة تعتبر الفناء الخلفي للدائرتين الخليجية والشرق الأوسط اللتين تشكلان نطاق عمل المشروع الإيراني الطموح الرامي إلى “تقطيب” طهران إقليميًا، وتوسيع سياقات نفوذها في المنطقة، الأمر الذي يعني أن منطقة القرن الأفريقي هي نقطة ارتكاز للتمدد الإيراني في أفريقيا من جهة، وتطويق الحزام العربي الخليجي المناوئ للإستراتيجية الإيرانية من جهة أخرى.
تتعدد الأدوات التي تنفذ من خلالها إيران سياساتها الخارجية تجاه أفريقيا، فكل نمط من الأنماط الفرعية له أدوات محددة تتناسب معه. وفي مقدمتها ما يسمى بـ"القوة الناعمة" وتسويق "النموذج الإيراني لأفريقيا". بعد رحيل الرئيس إبراهيم رئيسي، وتولي الرئيس مسعود بيزشكيان، تتجه إيران لاستكمال إقامة تحالفات مع الدول الأفريقية التي تشهد تراجعًا في النفوذ الأميركي والفرنسي في وسط وغرب القارة، وذلك عبر المزيد من التنسيق مع روسيا التي يتنامى نفوذها بصورة كبيرة، وذلك من خلال تزويد هذه النظم بالأسلحة الإيرانية، والمساعدة في مواجهة الجماعات الإرهابية.
التقدم الذي أحرزته إيران على الصعيد الدبلوماسي في أفريقيا، لا يخلو من عقبات في ظل قلق من استغلال دول القارة السمراء كنقاط عبور لصفقات الأسلحة، والتدخل في الشأن الداخلي للدول. وسبق وأن أعلنت جمهورية جيبوتي، عن تضامنها التام مع المغرب وتأييدها الكامل لقرار قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، دفاعا عن سلامة أراضيه ووحدة ترابه الوطني.
وتلفت مرعي في كتابها إلى مظاهر التغلغل الإيراني في القرن الأفريقي والبحر الأحمر موضحة أن الأهمية الإستراتيجية للمنطقة تزايدت بعد حرب صعدة الأولى، وتلعب جماعة الحوثي اليمنية الموالية لإيران حاليا دورا مؤثرا في زعزعة استقرار حركة الملاحة في جنوب البحر الأحمر من خلال استهداف الحاويات والناقلات النفطية المارة في مضيق باب المندب.
وتتجه طهران نحو تكثيف حضورها العسكري في منطقة باب المندب لمجابهة إستراتيجيات قوى دولية وإقليمية أخرى بات حضورها العسكري متزايدًا في المنطقة، لاسيما تركيا التي دشنت قاعدة عسكرية في الصومال، والصين التي دشنت قاعدة عسكرية في جيبوتي، هذا إلى جانب القوى التقليدية ذات الحضور العسكري في الإقليم مثل الولايات المتحدة وفرنسا.
تقول مرعي في كتابها “استغلت طهران زخم حروب القرصنة التي تداعت لها الكثير من القوى الدولية والإقليمية تحت ذريعة حماية مصالحها الاقتصادية والتجارية، لتحقيق وجود بحري دائم ذي صبغة عسكرية، سرعان ما توج بإقامة قاعدة بحرية متعددة المهام في ميناء “عصب” الإريتري على باب المندب، والتي تصفها بعض التقديرات بأنها قاعدة لأنشطة إيران العسكرية في دعم الحوثيين في اليمن وشرق أفريقيا”.
وبحلول عام 2020، أعلنت إيران عن “إستراتيجية الذراع الطويلة” للدفاع عن بعد، والتي تسعى إلى تعزيز نفوذها البحري في البحر الأحمر وبحر العرب نتيجة التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة في مضيق هرمز والعزلة الدولية في ظل إدارة الجمهوري دونالد ترامب. وتهدف الإستراتيجية إلى ضمان أمن إيران في مواجهة التهديدات الخارجية، وبناء قدرات إيران العسكرية والبحرية للالتفاف على العقوبات.
وتوضح مرعي أنه في إطار سعي طهران لتحقيق أهدافها بخاصة التمدد وتوسيع النفوذ ومواجهة الخصوم، اعتمدت إيران على مجموعة من محددات التحرك، في مقدمتها إستراتيجية “القوة الناعمة”، وذلك بالتزامن مع الاعتماد على عمليات “مجابهة التطويق” لاستراتيجيات قوى إقليمية وخاصة السعودية لتطويقها في دائرة “القرن أفريقية” ذات التماس الأمني المباشر مع الدائرة الخليجية.
فضلا عن التواجد لـ”منافسة الخصوم” لا سيما تركيا وإسرائيل. كما تسعي طهران من خلال ما يطلق عليه “مفاوضة النافذين” لامتلاك أوراق نفوذ اقتصادية وعسكرية في القرن الأفريقي، بما يمكنها من الحضور التفاوضي لدى القوى الدولية النافذة في شرق القارة الأفريقية، إضافة إلى تعزيز دور إيران كقوة إقليمية في أي ترتيبات بين الدول الكبرى بالمنطقة، وخاصة في ظل الأهمية المتزايدة للقرن الأفريقي في الأمن العالمي.
إن كثافة النفوذ الإقليمي وخاصة الإيراني في العمق الأفريقي وخاصة في منطقة البحر الأحمر وشرق أفريقيا، تشكل خصماً من رصيد السلام والاستقرار، حيث تقوم باختراق النظم الأمنية الخاصة بالقرن الأفريقي. وأبرزها، كثافة الوجود العسكري للقوى الدولية والإقليمية بالقرب من باب المندب، ومع أن هناك تعاونا بين بعض هذه القوى بشأن مكافحة تهديدات الملاحة البحرية في المنطقة فإن قدراً من التعارض يظل قائماً بما يعني أن ذلك التواجد يعني عسكرة الأمن في تلك المنطقة. وارتفاع مستوى التهديدات الأمنية في بيئة البحر الأحمر، والتي تبلورت في ثلاث ظواهر، هي: العسكرة، وتصاعد هجمات الحوثيين، والقرصنة البحرية؛ خاصة في ظل الحرب الإسرائيلية في غزة منذ أكتوبر 2023.
◙ إيران تعتمد ما يسمى بالجهاد البحري ويعني انتهاج سياسات تمكن الدولة من السيطرة أو الوجود القوي بالقرب من الممرات الملاحية
وتقول مرعي إن العمق الإستراتيجي الذي تشكله منطقة القرن الأفريقي للأمن الإقليمي الخليجي، يؤكد أن ثمة جهوداً إضافية مطلوبة لوضعها بشكل أكبر ضمن دائرة التفاعل والاهتمام الخليجي، خاصة في ظل بروز إرادة سياسية خليجية تجاه قضايا الصراع والأمن والتنمية في دول المنطقة، لمواجهة التحديات التي تترتب على الصراعات والحروب الأهلية، ومنها مشكلات اللاجئين والنازحين، والمخاطر الناتجة عن ظاهرة القرصنة في البحر الأحمر.
ولم تكن دول الخليج بعيدة عن قضايا الصراع والسلام في منطقة القرن الأفريقي، بل اهتمت بتلك القضايا من خلال دعم عملية الاستقرار والأمن والتنمية في دول الإقليم. كما تجلت الإرادة السياسية الخليجية في التفاعل والاهتمام بقضايا مهددات الأمن والاستقرار الاجتماعي في دول القرن الأفريقي.
برعاية من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، وقع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على اتفاق جدة للسلام في سبتمبر 2018، ليطوي البلدان صفحة أطول نزاع في القارة الأفريقية، ورحبت مصر والإمارات بالاتفاق الذي يمثل تطورا مهما في منطقة القرن الأفريقي.
وقامت الدبلوماسية القطرية بتوقيع اتفاق الدوحة للسلام في تشاد، بين ممثلين عن المجلس العسكري الانتقالي، ونحو 30 حركة سياسية وعسكرية تشاديه معارضة، وهو الاتفاق الذي مهد للحوار الوطني الشامل الذي عقد في أنجامينا بتشاد في 20 أغسطس 2022، وكانت قطر فيه مراقبا، وأحد ضامني الاتفاق.
وتطالب مرعي في إطار رؤيتها لإستراتيجية عربية لمواجهة النفوذ الإيراني في شرق أفريقيا، بتدشين آلية حوار إستراتيجي عربي/ خليجي – أفريقي، هدفها تأسيس مرحلة جديدة قائمة على شراكة حقيقية، قوامها المصالح الإستراتيجية المشتركة والقضايا ذات الحساسية لكل من دول الخليج والقرن الأفريقي، ومواجهة واقع التهميش والفقر الذي يعانيه الأفارقة، ووضع أساس التنمية المستدامة، مع التوسع في إقامة الاستثمارات والمشروعات الاقتصادية المشتركة ليحل محل أسلوب المنح والهبات المالية ذات الطابع التقليدي، حيث إن أثر هذه المشروعات أكبر في تعميق الصلة الحقيقية بين العرب والأفارقة.
ويلفت الكتاب إلى ضرورة الاهتمام بمنظومة الأمن في البحر الأحمر على اعتبار أنه ممر التفاعل الرئيسي بين الدول العربية ودول القرن الأفريقي. ويقتضي هذا الأمر تعاون الحكومات العربية والخليجية مع الدول المطلة على البحر الأحمر، وتبادل المعلومات معها، وتنسيق القيام بمهمات مشتركة لتحسين بيئة الأمن، ومكافحة القرصنة، وضمان سلامة الملاحة في هذا الممر المائي المهم، وبما يساهم في دعم علاقات الجوار مع القرن الأفريقي.