اخبار الإقليم والعالم
الحروب المستمرة والصدمات تخلف ندوبا نفسية لا تمحى في الشرق الأوسط
يكافح العاملون في مجال الصحة العقلية في مناطق الصراع في الشرق الأوسط من أجل دعم السكان الذين يعانون من الصدمات واسعة النطاق الناجمة عن الحروب المستمرة والنزوح.
ويسلط الخبراء الضوء على الخسائر النفسية واسعة النطاق الناجمة عن الحروب المستمرة والنزوح والصدمات، حيث تتكثف الجهود الإنسانية لتلبية الطلب الهائل على رعاية الصحة العقلية.
ويقول هؤلاء إن آثار الحرب الإسرائيلية على غزة شديدة على الصحة العقلية. ويبدو الوضع النفسي أكثر سوءا في غزة، حيث أدت الحرب إلى نزوح أكثر من 1.9 مليون شخص وأسفرت عن مقتل عشرات الآلاف. ويعيش العديد من النازحين الفلسطينيين الآن في ظروف قاسية وغير آمنة، مما يؤدي إلى تفاقم أزمة الصحة العقلية.
وقدمت منظمة أطباء بلا حدود أكثر من 8800 استشارة في مجال الصحة العقلية منذ بدء النزاع، وعالجت حالات واسعة النطاق من القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
وفي الوقت نفسه، أدت الاشتباكات المكثفة على طول الحدود الإسرائيلية – اللبنانية إلى زيادة القلق والتوتر لدى اللبنانيين والإسرائيليين. وتتفاقم هذه الضغوط النفسية بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية المستمرة في لبنان، مما يترك الكثيرين دون رعاية صحية نفسية كافية.
وعملت إيزابيل تيتار معالجة نفسية مقيمة في الإمارات مع المغتربين من جميع أنحاء الشرق الأوسط، وخاصة لبنان وغزة، لأكثر من ثلاث سنوات. منذ أن بدأ الصراع الأخير ولاحظت انخفاضًا حادًا في رفاهية عملائها.
وقالت تيتار في تصريحات لصحيفة ميديا لاين “مع استمرار الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة، لاحظت زيادة حادة في القلق والاكتئاب والقضايا المرتبطة بالصدمات بين الناس في دبي، وخاصة داخل مجتمعات المغتربين”.
وأضافت أن الصراع والنزوح يمكن أن تكون لهما آثار طويلة المدى على الصحة العقلية، موضحة “يعاني العديد من الأشخاص من مشاكل مزمنة مثل اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب أو القلق. وبمرور الوقت، يؤدي التوتر إلى إضعاف مرونتهم، وقد يبدأون في الشعور باليأس”.
والتعرض المستمر للأخبار المؤلمة والخوف على الأحباء وعدم اليقين الشديد هي مواضيع متكررة في جلساتها. وأضافت تيتار “يصف الكثير من العملاء شعورهم بالعجز وكأنهم فقدوا السيطرة على حياتهم، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى الوضع”.
وقالت إن الأطفال واللاجئين وكبار السن معرضون للخطر بشكل خاص. ويواجه اللاجئون عبئاً إضافياً يتمثل في فقدان منازلهم وعدم اليقين بشأن النزوح، الأمر الذي يمكن أن يؤثر حقاً على صحتهم العقلية. ومن ناحية أخرى، غالبا ما يواجه كبار السن صعوبة أكبر في التكيف مع مثل هذه التغييرات الكبيرة، مما يجعلهم يشعرون بالمزيد من العزلة والعجز.
وأشارت تيتار إلى أن دولة الإمارات حققت تقدماً كبيراً في دعم الصحة العقلية خلال النزاع، “كانت هناك دفعة حقيقية لتعزيز الدعم، من خلال المجموعات والرسوم المتدرجة التي تساعد الأشخاص من خلفيات مالية مختلفة. ومن المشجع أن نرى هذه الجهود تساعد الناس في الوصول إلى الرعاية التي يحتاجون إليها”.
ويعاني العديد من الإسرائيليين من القلق وردود الفعل الإجهادية الشديدة، واضطراب ما بعد الصدمة. ويضيفون أن هجمات 7 أكتوبر 2023 قد أصابت الناس بصدمة عميقة، مع الضغط الإضافي الناجم عن أزمة الرهائن المستمرة مما خلق شعوراً بالتعذيب النفسي.
وصمة عار
واستجابت المجموعات الإنسانية الإسرائيلية لأزمة الصحة العقلية من خلال إرسال متخصصين في الصحة العقلية إلى المناطق الأكثر تضرراً وتقديم برامج بناء القدرة على الصمود. لكن البلاد تظل على حافة الهاوية، وتتعامل مع التهديدات المباشرة والتوتر العاطفي الناجم عن اليقظة المستمرة.
وقالت إيمي بالمور، التي ترأس المركز الإسرائيلي للصدمات والمرونة، المعروف باسم “ناتال”، إن الإسرائيليين يواجهون “صدمة جماعية ضخمة”. وقالت إن هجمات 7 أكتوبر “غيرت رؤيتنا بشأن قدرة الهجمات الإرهابية على تعريض أمننا الشخصي للخطر”.
وأضافت بالمور التي شغلت سابقا منصب المدير العام لوزارة العدل، إن تهجير 150 ألف إسرائيلي وتعبئة 300 ألف جندي احتياطي أضافا مستويات إضافية من الخوف والقلق. وإلى جانب القلق بشأن الرهائن الـ103 الذين ما زالوا محتجزين في غزة، يشعر العديد من الإسرائيليين بأن الصدمة لا تنتهي.
وأوضحت “يشعر الجميع أن هذا يمكن أن يحدث لنا، ويمكن أن يحدث مرة أخرى أيضًا”.
وقدم “ناتال” الخدمات لجميع الإسرائيليين، بغض النظر عن خلفيتهم. وذكرت بالمور “نحن نعرف كيف نجيب باللغة العربية”. “وتعمل المنظمة مع 240 بلدية، بما في ذلك العديد من البلديات العربية، لبناء القدرة على الصمود ورفع مستوى الوعي حول خدمات الصحة العقلية”.
وتابعت بالمور إنه تاريخيا، كان نظام الصحة العقلية في إسرائيل يعاني من نقص التمويل، واصفا إياه بأنه “الفناء الخلفي لوزارة الصحة”.
وقبل الحرب، كانت فترات الانتظار للحصول على خدمات الصحة النفسية العامة تمتد إلى 18 شهراً. ومنذ 7 أكتوبر قام “ناتال” بتوسيع خدماته، حيث يعالج أكثر من 2300 شخص أسبوعيًا ويزيد عدد المعالجين لديه من 100 إلى 500. ومع ذلك، لا يزال الطلب يتجاوز الموارد المتاحة.
الحلقة الضعيفة
وقالت بالمور إن المنظمة تتلقى المزيد من التمويل وتعمل على تنويع عروضها. وأشارت إلى تغيير كبير في السياسة “لأول مرة، يعترف معهد التأمين الوطني الإسرائيلي بإعاقات الصحة العقلية لدى أقارب ضحايا الإرهاب الذين شاهدوا تسجيلات الهجمات عبر الإنترنت، حتى لو لم يكونوا حاضرين جسديا”.
وأفادت بالمور أن التحدي الكبير في معالجة أزمة الصحة العقلية في إسرائيل هو أن العاملين في مجال الصحة العقلية أنفسهم يتأثرون أيضا، حيث قالت “لدينا جميعًا واقع مشترك. لم ننم في الليل لأن ابني وابن كبير الأطباء النفسيين في ‘ناتال’ كانا يخدمان في غزة. وأضافت “كنا أولاً وقبل كل شيء أمهات قلقات للغاية على أبنائنا”.
وبحسب بالمور فإن بعض الإسرائيليين فقدوا أقاربهم، ونزح البعض من منازلهم، ويعيش البعض الآخر في مناطق الصراع، لكن الكثيرين يترددون في طلب المساعدة. وأشارت إلى أن “الكثير من الناس يقولون: إذا انفتحت على الحديث فسوف أنهار، أو سأعود إلى العلاج عندما يعود ابني، أو عندما أعود إلى المنزل”.
وعلى سبيل المثال، واجه شريك ابنتها فترات متواترة من التحسن والتدهور في الصحة العقلية المرتبطة بخدمته المتكررة في الاحتياط. وقالت “في كل مرة يحدث تحسن، يحدث شيء ما، ثم يتدهور”.
وخاصة بالنسبة إلى الرجال تظل وصمة العار المحيطة بصراعات الصحة العقلية عائقًا. وأوضحت بالمور “في بلد يعرف فيه كل صبي أنه سيضطر إلى الالتحاق بالجيش في سن 18 عاما، هناك توقع أن يكون قويا”.
وأضافت أن عرب إسرائيل يتأثرون أكثر بالتوقعات الثقافية المتعلقة بالمرونة “على مدى سنوات، عملت ‘ناتال’ على كسر وصمة العار في هذه المجتمعات، وخاصة بين الدروز الذين يخدمون في الجيش”. وتابعت “مؤخرًا، قدمت المنظمة العلاج الجماعي للجدات الدرزيات، وهي طريقة حساسة ثقافيًا لزيادة الوعي وتقديم دعم الصحة العقلية في بيئة موثوقة”.
وأشارت تيتار أيضًا إلى الوصمة باعتبارها حاجزًا يمنع الناس من الحصول على الرعاية. وقالت “في الشرق الأوسط، قد يُنظر أحيانًا إلى طلب العلاج على أنه نقطة ضعف، لذلك يتردّد الناس في التواصل معها”. وأضافت “علاوة على ذلك، هناك مشاكل مالية، ولا يعلم الجميع ما هي الموارد المتاحة. كما يمكن للاختلافات اللغوية والثقافية أن تزيد من صعوبة التواصل مع النوع المناسب من الدعم.
وقالت إن المعايير الثقافية تلعب دورا هاما، “هناك تركيز قويّ على أن تكون مرنًا وأن تتعامل مع الأمور بنفسك، مما يجعل من الصعب على الناس التحدث عن معاناتهم، شرف العائلة وسمعتها هما عاملان كبيران هنا، ويشعر الكثيرون بالقلق من أن طلب المساعدة قد ينعكس بشكل سيء على عائلاتهم”.
ونوهت إلى حدوث تحول إيجابي، خاصة بين الأجيال الشابة وأولئك الذين يعيشون في المناطق الحضرية، الذين بدأوا في مناقشة الصحة العقلية بشكل أكثر انفتاحًا.
وعلى الرغم من تزايد الوعي، إلا أن المفاهيم الخاطئة لا تزال قائمة. وقالت تيتار “يعتقد البعض أن تحديات الصحة العقلية يمكن التغلب عليها بقوة الإرادة المطلقة أو ينظرون إليها على أنها عيوب في الشخصية”. ويربط آخرون هذه القضايا بـ”الإخفاقات الدينية أو الأخلاقية، مما يمنع الناس من طلب المساعدة. ولسوء الحظ، فإن الوصمة المرتبطة بحالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب لا تزال قوية، خاصة في الدوائر المحافظة”.
ويصادف 10 أكتوبر اليوم العالمي للصحة العقلية، وهو جهد دولي لرفع مستوى الوعي بالصحة العقلية. ومع استمرار اتساع نطاق الصراع في الشرق الأوسط، أصبح هذا الجهد أكثر إلحاحا.
وأكد الأمير الحسن بن طلال في الجلسة الأولى لمؤتمر “استعادة الأمل: الصحة النفسية في الشرق الأوسط” الذي تزامن مع اليوم العالمي للصحة النفسية أهمية تحقيق الشراكة بين جميع الجهات المعنية؛ معتبراً الاستثمار في الصحة النفسية “أساساً ضرورياً لأغلى ما نملك وهو رأس المال الإنساني”.
وأشار في جلسة بعنوان “مسارات التقدم: معالجة العوائق المتعلقة بخدمات الصحة النفسية في الشرق الأوسط”، إلى تأثير حروب المنطقة، وخصوصاً في فلسطين، في حقوق الحياة وإدارة سياسات الأمانة، لافتاً إلى أهمية توجيه الاهتمام والرعاية إلى 17 ألف طفل في غزة من فاقدي السند الأسري والعمل عموماً من أجل الأجيال القادمة.
وتطرّق الأمير الحسن خلال حديثه إلى أرقام منظمة الصحة العالمية عام 2020 بخصوص ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون الاضطرابات النفسية بسبب جائحة “كوفيد – 19” إلى 30 في المئة. وقال “نحو 25 في المئة من أبناء مجتمعات اللجوء والمجتمعات المضيفة للاجئين في الأردن شُخصوا بشكل أو بآخر باضطراب نفسي”.
وحدد فراس الهواري، وزير الصحة الأردني أبرز تحديات الصحة النفسية عموماً في الكلف الباهظة للأدوية المستخدمة في العلاج، وندرة المختصين في هذا المجال، ونقص البنية التحتية ذات الجودة العالية، والتحفظ المغلف بوصمة العار الاجتماعية.