ثقافة وفنون
غياب السياح وجائحة كورونا يضعان الحرفة في رف التاريخ
الخزافون في تونس يكافحون لطرد شبح الكساد
ينفض وديع الغبار عن الأواني ذات الألوان المزركشة والمعروضة أمام محله ويحرص على ألا تقع أرضا، بينما يكتفي المارة بإلقاء نظرات سريعة دون أن يتجشموا عناء الوقوف لتفحص معروضاته.
وبينما تنقضي ساعات النهار الأولى في هدوء وسط الزقاق، فإن وديع لا يزال ينتظر فرصة تسويق أول طلبية.
وقد تمتد فترة الانتظار حتى المساء، فيضطر البائع الأربعيني إلى العودة خالي الوفاض إلى منزله. وهي ليست المرة الأولى التي يفشل فيها وديع طوال اليوم في تحقيق دخل مالي.
يقول “لسنا في وضع جيد. نحن في مرحلة تسبق الانهيار لكننا نعمل بجد وصبر حتى نتجاوز العاصفة”.
ويضيف وديع متذمرا “بالكاد يأتي سياح إلى السوق. قدمنا تخفيضات تقل عن الكلفة الحقيقية حتى نتمكن من بيع منتجاتنا للزبائن المحليين، لكن مع ذلك نواجه الكساد”.
ومثل أغلب دول العالم تلقت السياحة التونسية ضربة قوية مع تفشي فايروس كورونا، حيث انهار عدد الوافدين بنسبة لا تقل عن 70 في المئة في 2020 مقارنة بالعام السابق فيما تراجعت العائدات بنسبة تفوق 64 في المئة في نفس الفترة.
ويواجه وديع الذي ورث المحل عن والده، تحديا مضاعفا إذ عليه الحفاظ على مهنة متوارثة لدى العائلة وتفادي إغلاق المحل لأول مرة منذ افتتاحه في العام 1969.
واكتسب المحل سمعته وسط أسواق المدينة العتيقة بتونس العاصمة بصفته الوحيد الذي يقدم أواني خزفية مصنوعة يدويا.
وصناعة الفخار والخزف حرفة رائجة في تونس وضاربة في القدم وتأثرت بشكل كبير بالثقافات الوافدة، ومن بينها صناعة الخزف في بغداد القديمة وفي مصر زمن الدولة الفاطمية وتركيا وصقلية وفي المغرب والأندلس.
ويعرف الأندلسيون الذين هاجروا من إسبانيا إلى تونس منذ القرن السادس عشر، بتأثيرهم على هذه الصناعة في مدن الشمال أبرزها نابل الملقبة بعاصمة الفخار.
وتنظم العاصمة تونس ملتقى دوليا سنويا للخزف الفني في بيت الخزاف التونسي الشهير قاسم الجليزي المتوفي عام 1469، وهي عبارة عن زاوية.
وتذكر روايات المؤرخين أن الجليزي كان رجلا صالحا يعرف بـ”سيدي قاسم” وكان يصنع بنفسه مربعات الجليز التي ما تزال تزين الجدران الداخلية والخارجية للزاوية، ولذلك كان يحمل كنية الجليزي التي أسندت له تبعا لما ترويه التقاليد باعتباره أصيل الأندلس بلد كبار صانعي الجليز.
وتنقل الروايات التأثير الكبير الذي كان يملكه الجليزي في حياة معاصريه فضلا عن شهرته في فن الخزف وسط مدينة تونس. لكن على الرغم من الإرث الكبير لهذه الصناعة الحرفية، فإن عدد الورشات المصنعة للخزف على أيدي الحرفيين لا تتعدى اليوم أصابع اليد الواحد في المدينة العتيقة.
وبشكل عام يقسم الحرفيون صناعة الأواني الخزفية والفخار إلى نمطين، يقوم الأول على الفخار بالدولاب الدائري الذي هو من اختصاص الرجال، والثاني الفخار المطوع الذي تتعاطاه النساء، وهو نشاط منتشر في المناطق الريفية لصنع منتوجات ذات الاستخدام المنزلي أساسا.
ويعمل مع وديع في ورشة التصنيع القريبة من المحل اثنان من العمال المتخصصين في صناعة الأواني الخزفية يدويا. وبسبب الركود وتفشي جائحة كورونا التي عطلت توافد السياح الأجانب بكثافة على البلاد لنحو عامين، فقد اضطرا للقبول بتخفيض راتبيهما لمجابهة الأزمة.
يقول وديع “لدينا عائلات نحاول أن نتضامن لنتقاسم الأوقات الصعبة كما تقاسمنا في السابق الأوقات الجيدة”.
ومثل الآلاف من العاملين في قطاع الصناعات التقليدية يشكو وديع من إغراق السوق بالمنتجات الآلية الرخيصة المستوردة من الصين وتركيا بجانب الضرائب المفروضة على صغار المصنعين الحرفيين. ووجهت هذه السلع الرخيصة المتدفقة على الأسواق ضربة مميتة للكثير من الحرفيين الذين تحولوا لمزاولة مهن أخرى.
وفي مسعى لتخفيف وطأة وباء كورونا على قطاع السياحة والصناعات التقليدية، قالت الحكومة إن هناك مساعدات في قانون المالية لعام 2022 ستوجه لعمال المؤسسات الناشطة في القطاع السياحي التي توقفت عن النشاط بصفة مؤقتة جزئيا أو كليا أو المتضررة من تداعيات تفشي فايروس كورونا.
وسيستفيد هؤلاء العمال بمنحة استثنائية وظرفية شهرية قدرها 200 دينار (حوالي 70 دولارا) طيلة فترة التوقف عن النشاط لمدة أقصاها 6 أشهر. وفي نظر الحرفيين فإن المبلغ يعد زهيدا ولا يسد ربع حاجياتهم مدة شهر.
ويبلغ الأجر الأدنى شهريا في تونس حوالي 450 دينارا (قرابة 157 دولارا)، وهو لا يعكس مستوى المعيشة المكلف. وقد حذر اتحاد الشغل في ذروة الأزمة الاقتصادية والسياسية من انهيار القدرة الشرائية للطبقات الضعيفة والمتوسطة بسبب ارتفاع الأسعار وضعف الأجور.
ومنذ بداية الأزمة في 2020 أعلنت الحكومة عن تدابير لمساعدة قرابة 800 ألف من الحرفيين والتجار والعاملين في القطاع السياحي بشكل مباشر وغير مباشر، لكن وديع قال إنه لم يتحصل على أي مساعدة.
ولتفادي الإفلاس اضطر لاستخدام مدخراته للصمود. وقال في يأس “صمدنا عاما كاملا نتطلع لأن ينتهي الكابوس في منتصف 2022 على أقصى تقدير”.
ووسط الأزمة يظل وديع أكثر حظا من باقي الحرفيين في السوق العتيقة. وقال بائع لحقائب جلدية إن كثيرين اضطروا لغلق محلاتهم بسبب ملاحقتهم في قضايا مالية من قبل المزودين لعدم خلاصهم سلعهم التي ظلت مكدسة في المخازن.
ويرى وديع بصيصا من الأمل بعودة قريبة للوفود السياحية مع تعميم جرعات اللقاحات المعززة عالميا. ويقول “لن يبقى الوضع على حاله للأبد. عرف العالم جوائح في السابق. سيعود الناس للإقبال على الحياة والسفر وسيصبح كورونا جزءا من الماضي”.