ثقافة وفنون
الجنوب من الثورة إلى الدولة...شروط ومتطلبات
محاضرة قُدمت إلى اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، محافظة لحج، في فعالية أقامها الاتحاد بمناسبة احتفالات شعبنا الجنوبي بالعيد الخامس والخمسين للاستقلال الوطني.
من أفدح الأخطاء التي ترافق عملية الاستقلال الوطني لأي بلد، تدني مستوى الوعي لدى أكثرية السكان، والخلط الخاطئ بين مفهومي الثورة والدولة، فيصبح رجل الثورة رجل الدولة بدون أي اعتبارات أو مراعاة لمتطلبات المرحلة، دعونا نشير إلى ذلك:
هناك رجال ثورة وهناك رجال دولة، للثورةم أبطالها وللدولة رموزها وقياداتها، هذا الاختلاف بديهي وناجم عن فوارق جوهرية بين المرحلتين، ومتطلبات كل منهما. تحول رجل الثورة إلى رجل الدولة دون معايير موضوعية موجبة لذلك، يكون له تداعيات تفاقم من وضع البلد العام، مما قد يقود الدولة الفتية للفشل الذريع في وقت مبكر، وفشل الدولة يعني الابتعاد عن أهداف الثورة وانحراف مسارها.
رجال الثورة يجري تكريمهم وتعويضهم بشكل لائق نظير أدوارهم وتضحياتهم البطولية، لكن ليس على حساب المصلحة العليا، وبما يتعارض مع المعايير المهنية لبناء الدولة، في تصرف قد يقود لنسف مفهوم الدولة ويفرغه من أهم مضامينه، وتتحول معه الدولة إلى أداة وكيان هش لا يمثل مصالح الجميع.
من أكثر الأسباب للخلط بين المفهومين (الثورة والدولة)، اعتقاد البعض بعدم أهمية التمييز بين المفهومين، فالثورة في نظرهم تفضي بالضرورة للدولة، ورجل الثورة على هرم الدولة ضامن مهم لاستمرار الثورة في مسارها الصحيح.
يتعين علينا هنا إبراز بعض الفوارق بين المفهومين، منعا لأي تداخل بينهما:
ليس كل رجل ثورة رجل دولة دائما، والعكس صحيح، وصحيح أيضا إن هناك رجال ثورة ورجال دولة في آن واحد.
من الأهمية بمكان التأكيد على إن الثورات الشعبية لا تعبر عن إرادة أشخاص (الثوار تحديدا)، ولو حدث ذلك لما جاز تسميتها بـ (الثورة)، فالثورات انعكاس مباشر للإرادة الجمعية للشعوب، رغم ان هناك من يتولى قيادة الفعل الثوري على الميدان، دون إن يلغي ذلك إيمان الآخرين بالمبادئ الثورية، مما يكسبها زخم أكبر.
ما الضامن لاستمرار وهج الثورة وعطائها؟..
من يدافع عن أهداف الثورة هو الشعب نفسه (أي شعب) فمتى ما كانت تلك الأهداف تعبر عن طموحه وتلامس آماله، وتمكنه من تحقيق إرادته وتطلعاته، حتما سينتصر لها ويعمل على الحفاظ عليها.
الحفاظ على المكاسب الثورية ليست مهمة حصرية تقتصر على العينة الثورية فحسب، وإن حدث ذلك ستنتهي الثورة في وقت مبكر مع رحيل الثوار، وتعود الثورة إلى نقطة الصفر.
متى يبدأ الحديث عن الدولة؟..
الثورة تمر بمرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى تتمثل في حمل السلاح والكفاح المسلح لغاية زوال الاستبداد والطغيان، ثم تليها مباشرة المرحلة الثورية الثانية المتمثلة بتأسيس مداميك نظام حكم جديد، وبناء مؤسسات مدنية، يقع على عاتقها عملية تنفيذ بقية أهداف الثورة المحددة، المتمثلة في بناء الإنسان وتنمية البلد على مختلف الأبعاد.
قيام دولة مؤسسية فاعلة يضمن استمرار الثورة في مسارها الصحيح، ويشرع في استكمال تنفيذ بقية أهدافها.
هناك أخطاء جسيمة تقع في فخها الكثير من الثورات في بلدان العالم الثالث، بفعل غياب البعد المستقبلي، وعدم قدرة الجماعة الثورية على توصيف الثورة بشكل دقيق.
كيف يحدث ذلك؟؟..
يترسخ اعتقاد عميق لدى عدد كبير من أبناء الشعوب النامية، الحالمة بالتحرر من أشكال الاستعمار، على إن الثورات تكتمل وتبلغ ذروتها مع رحيل آخر جندي أجنبي، وزوال الاستبداد، ولهذا التصور الخاطئ تبعات خطيرة، إذ إن رحيل الاستعمار أو الاستبداد يمثل هدف وحيد من ضمن جملة من الأهداف المتشابكة للثورات ينبغي تحقيقها تباعا، ونظرا لهذا التقدير غير الدقيق للأمور يحدث معه سباق محموم نحو السلطة من قبل القوى المشاركة في الثورة، وقد يتمخض عن ذلك الفعل تحول الثورة إلى سلطة قمع مستبدة، وربما تنخرط القوى الثورية نفسها في عملية اقتتال داخلية.
كيف يمكن تحقيق أهداف الثورة (أي ثورة( دون تبدل أو انحراف عن المسار المحدد؟..
يتعين علينا قبل أي شيء آخر تحديد طبيعة وشكل التهديدات التي تواجهها بلدنا المحتل، التي لا تقتصر بطبيعة الحال على الوجود الميداني للاحتلال وحسب، بل هناك تحد أهم يتمثل في تبعات هذا الاحتلال، وما خلفته ممارساته القذرة طيلة عقود من الزمن هنالك: الجهل والفقر والمرض والتخلف والطبقية والعصبية، كلها مسائل مؤرقة تتطلب استعدادا كبيرا لمجابهتها، فليس بمقدور الثورة المسلحة لوحدها القضاء عليها، بل لابد من الانخراط في نضال من نوع آخر لكبحها والانتصار عليها، من خلال العمل الجاد على بناء دولة مدنية عادلة قوية قادرة، تتمتع بسلطات كافية، لاستكمال تنفيذ بقية الأهداف الثورية، وإدارة مؤسسات البلد بصورة فاعلة، وتوجيه المقدرات الحيوية لبناء الإنسان الجنوبي بناءً علميا حديثا، وتمكينه من المساهمة الفاعلة في العمل والإنتاج، وتذليل سبل الحياة المعيشية للسكان وتحقيق العدالة الاجتماعية.
الاستنتاجات:
من الأهمية بمكان التمييز بين مفهومي الثورة والدولة، وعدم الخلط بينهما.
الثورة والدولة لكل منهما شروط ومتطلبات، يتعين الحرص على تحقيقها بصورة موضوعية ومستقلة.
الشعب بكل أبنائه ومكوناته وقواه ضامن قوي يمنع الثورة من الانحراف.
بناء الدولة متطلب حيوي للحفاظ على مكاسب الثورة، واستكمال تنفيذ بقية أهدافها.
لا ينبغي الحديث عن نجاح الثورة قبل بناء الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية