اخبار الإقليم والعالم
مقاتلون سوريون معارضون يتدربون مع اميركيين في قاعدة التنف منتصف الشهر الجاري
مَن قصف «القلعة الأميركية» في سوريا... ولماذا؟
في منتصف العام 2017، شنت القوات الأميركية غارات على مجموعة مسلحة كانت تقترب من قاعدة التنف، ما رسم خطاً أحمر أو «قواعد اشتباك» بين واشنطن وحلفائها من جهة، وموسكو وشركائها من جهة ثانية في الزاوية السورية - الأردنية - العراقية. لكن، ماذا تغير الآن، كي تتعرض «القلعة» التي تقيم فيها قوات أميركية وحليفة وفصائل سورية معارضة، لقصف بمسيرات ليل الأربعاء - الخميس؟
بعد تلك الحادثة، قبل أربع سنوات، جرت اتصالات أميركية - روسية، وتم الاتفاق على مذكرة «منع الصدام» بين جيشي البلدين، التي شملت رسم نهر الفرات خطاً فاصلاً بين الطرفين: شرق الفرات ومنطقة منبج وجوارها في ريف حلب وقاعدة التنف لواشنطن وحلفائها، وغرب الفرات و«مربعان أمنيان» في الحسكة والقامشلي لموسكو وشركائها. وبقي الاتفاق صامداً رغم الاختبارات وعمليات التحالف بقيادة أميركا ضد «داعش»، وهجمات روسيا ضد فصائل مناوئة.
وفي نهاية 2019، جرت بعض التغييرات الميدانية شرق الفرات، بعد قرار الرئيس دونالد ترمب سحب قواته من حدود تركيا، ما أفسح في المجال لتوغل تركيا وفصائلها الموالية بين تل أبيض ورأس العين، وتطلب ذلك اتفاقات جديدة بين واشنطن وأنقرة، وبين موسكو وأنقرة، وبين القامشلي ودمشق، لتنسيق الانتشار العسكري الجديد المعقد ومنع الصدام بين الدوريات والمروحيات، في ضوء المسرح العملياتي الجديد.
وبدءاً من بداية 2020، بعد اغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني من قبل أميركا، تحولت الحدود السورية - العراقية، وقاعدة طهران في مدينة البوكمال الحدودية، وقاعدة واشنطن في حقل عمر شرق النهر، ساحة للصدام الأميركي - الإيراني وتبادل الرسائل، كما واصلت إسرائيل قصف «مواقع إيرانية» قرب الحدود، لقطع طريق طهران - البوكمال - دمشق - بيروت، الذي فتحته إيران بديلاً من طريق طهران - بغداد - التنف - دمشق - بيروت الذي قطعته واشنطن بتثبيت قاعدتها في التنف.
ما الجديد الآن؟
بعد انسحاب أميركا من أفغانستان والاتفاق على سحب «القوات القتالية» من العراق والانكفاء من الشرق الأوسط، زاد الضغط على الوجود الأميركي في سوريا من جميع الأطراف الفاعلة، إذ قصفت فصائل تابعة لطهران، أكثر من مرة، قواعد أميركا هناك، كما أن طائرات مسيرة تركية استهدفت قياديين أكرادا يعملون في «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن، كما صعدت روسيا وتركيا وإيران وسوريا الحملات السياسية ضد «الوجود غير الشرعي» للقوات الأميركية في سوريا.
في المقابل، سعت واشنطن، عبر اتصالات وزيارات سرية، لطمأنة الأكراد وحلفائها. لكن الاعتقاد اتسع وزاد من أن الإقامة الأميركية ليست مفتوحة الأجل هناك. ورغم الاختلافات الكبيرة بين موسكو ودمشق وطهران من جهة، وأنقرة في إدلب من جهة ثانية، فإن الأطراف الأربعة تنسى خلافاتها، و«تتفق» في الضغط على الأميركيين والأكراد شرق الفرات، مع اقتراب زوال خط الإمداد بعد الانسحاب من العراق.
وهناك عامل جديد آخر يخص العلاقة بين إسرائيل وروسيا. فمنذ مغادرة بنيامين نتانياهو منصبه، استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تسلم نفتالي بنيت رئاسة الوزراء بأن صعد ضد أي غارة تشن في سوريا، وراحت قاعدة حميميم الروسية تنشر تفاصيل استعمال الدفاعات الجوية السورية لصواريخ روسية لصد الهجمات، بحيث ضاق هامش التحرك الإسرائيلي باتجاه سوريا. وحاول بنيت وراثة «خصوصية نتانياهو» عند بوتين، وأن يحصل على «يد حرة» في قصف مواقع في سوريا طالما أنه لا يستهدف السوريين أو الروس، وأوفد وزير خارجيته مائير لبيد لاستعادة «آلية التنسيق العسكري» بين الجيشين والخط الأحمر بين حميميم وتل أبيب.
وكعادته في ملفات عدة بينها إدلب، عندما كان بوتين يصعد قصف مواقع قريبة من الجيش التركي قبل كل قمة له مع الرئيس رجب طيب إردوغان، فإن التصعيد الأخير ضد قاعدة التنف الأميركية جاء عشية وصول بنيت إلى سوتشي اليوم للقاء بوتين وبحث الملف السوري ووجود إيران. وقبل هذه الزيارة، كانت روسيا مهدت بـ«الذخيرة الخطابية»، للضغط على إسرائيل، إذ أن قاعدة حميميم نشرت تفاصيل القصف الإسرائيلي الأخير في 14 من الشهر الجاري، على «قاعدة إيرانية» في مطار «تي فور» في حمص، مع تركيز على التنف، وقالت إن «مقاتلات تكتيكة إسرائيلية من نوع إف 16، دخلت في المجال الجوي لسوريا في منطقة التنف المحتلة من قبل الولايات المتحدة بمحافظة حمص لقصف ريف حمص».
الاعتقاد الواسع هو أن التنف توفر دعماً لوجيستياً للغارات الإسرائيلية وعمليات التحالف. وقد سعت موسكو مرات عدة لتفكيكها، ووضع مسؤولون أميركيون سابقون احتمال تفكيكها على مائدة التفاوض مع روسيا، لكن سرعان ما سحبوا هذا الخيار تلبية لمطالب إسرائيل، بل إنه حتى عندما تحدث ترمب عن الانسحاب من سوريا، كان واضحاً أن هذا لن يشمل التنف.
هذا لا يعني أن قصف التنف هو روسي. إذ أن هناك تزامناً آخر، ذلك أن فتح ملف هذه القاعدة - القلعة جاء بعد التغييرات الكبيرة التي حصلت وتحصل في جنوب سوريا، بقيادة الجيش الروسي، وشملت تسويات امتدت من غرب درعا إلى شمالها، وباتت تتدحرج شرقاً باتجاه الحدود البرية للتنف، أو ما يعرف بـ«دائرة 55»، وهو محيط القاعدة الذي يعتبر خط الفصل مع دمشق وحلفائها. هذه «التسويات الروسية» تحصل بتفاهم علني مع الأردن ومخفي مع إسرائيل، على أمل تخفيف النفوذ الإيراني في الجنوب. وكان لافتاً أنه بعد ساعات من استهداف التنف، أعلن الجيش الأردني إسقاط طائرة مسيرة استخدمت في محاولة لتهريب مخدرات من سوريا.
صحيح، أن القصف وضع مستقبل القاعدة والتنسيق ومجمل القصف الإسرائيلي في سوريا على مائدة بوتين - بنيت. والصحيح أيضاً، أن القمة يغيب عنها طرفان معنيان مباشرة بالقصف والقاعدة: إيران المتهمة بتسيير المسيرات، وأميركا المعنية بتلقي المسيرات، والتي هددت بـ«الرد في المكان والزمان المناسبين». لذلك، مرة أخرى، يجد بوتين نفسه معنياً في البحث عن وصفة توازن بين أطراف متخاصمة ومصالح متناحرة.