عبد الله أبو زرقة.. هل هزمه الجوع أم المرض؟
في إحدى ليالي غزة الثقيلة، ارتفع صوت طفل صغير يئن من الألم والجوع قائلاً: "أنا جعان". كانت تلك الصرخة البسيطة بداية قصة انتهت بفاجعة إنسانية محفورة في ذاكرة أسرته وقلوب من سمعوها.
الطفل عبد الله أبو زرقة، ابن الخمس سنوات، لم يكن مجرد رقم يُضاف إلى قوائم ضحايا غزة، بل كان وجهًا بريئًا يختزل معاناة جيل كامل يعيش بين المرض والفقر. وُلد محاصرًا بجسد ضعيف ونظام صحي أشد ضعفًا.
منذ عامه الأول، بدأت علامات التعب تظهر عليه: فقدان الشهية، شحوب الوجه، وتراجع في الوزن. حاول والداه التنقل بين المستشفيات القليلة التي لا تزال تعمل، لكن الأطباء لم يملكوا سوى تشخيصات أولية مرتبطة بسوء التغذية، وفقر الدم، وربما مشكلات في الكبد أو الكلى. وما كان متاحًا من دواء لم يتجاوز المسكنات والفيتامينات، بينما الألم يزداد حدة.
«الموت بين الناس نعاس»
في بيت متواضع شمال قطاع غزة، تجلس أمٌ شابة وقد نال منها الحزن. على الجدار صور ثلاثة أطفال، اثنان رحلا إلى الأبد والثالثة لا تزال تصارع المرض. تقول الأم وهي تمسح دموعها:"محمد راح قبله بعام، عبد الله بعده، والآن حبيبة بين الحياة والموت.. لم أعد أتحمل."
القصة بدأت قبل أن تشتعل الحرب الأخيرة. محمد، الابن البكر، كان طفلًا حيويًا يملأ البيت حركة. فجأة بدأت شهيته تقل، جسده يضعف، وتلون جلده بصفرة غريبة. جالت به الأسرة بين عيادات محلية وأطباء عامين، لكن التشخيص ظل ضبابيًا: "مرة يقولوا الكبد، مرة الكلى". وفي ليلة واحدة توقف قلبه، تاركًا العائلة في صدمة لم تفق منها بعد.
بعد عام، واجه عبد الله المصير نفسه. كان يردد جملة واحدة تقطع قلب والدته: "أنا جعان". لكن الحقيقة أن الطعام لم يكن يكفيه، أو بالأحرى لم يكن جسده قادرًا على الاستفادة منه. ما يلتهمه المرض كان أكبر من أي لقمة تُقدم له.
صرخات عبد الله وأخيه محمد كانت امتدادا لمعاناة داخل الأسرة كلها. فشقيقتهما حبيبة، ما تزال تعاني من مشاكل صحية مشابهة، وتحتاج إلى رعاية طبية خاصة غير متوفرة في غزة.
وسط ضغوط مستمرة من أطباء محليين ومنظمات إنسانية، تمكّن عبد الله من الحصول على تحويلة طبية إلى تركيا. بالنسبة لأسرته، كان ذلك بصيص أمل طال انتظاره. حملته والدته بين ذراعيها، وهي تدرك أن الرحلة قد تكون طويلة وصعبة، بل كانت تدرك نهايتها.
في تركيا، خضع عبد الله لفحوصات عدة، أظهرت أن حالته الصحية متدهورة للغاية، وأن العلاج أصبح معقدًا ومكلفًا، بينما جسده الصغير لم يعد قادرًا على التحمل. بعد أيام قليلة من وصوله، لفظ أنفاسه الأخيرة كما أخيه الأكبر ،لتستقبل غزة جثمانًا جديدًا، هذه المرة لطفل لم يعرف من الدنيا سوى الألم.
هل كان السبب سوء التغذية؟
ورغم أن كثيرين ربطوا مأساة عبد الله أبو زرقة بالجوع والحصار، إلا أن الصورة الطبية أكثر تعقيدًا. تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن سوء التغذية المزمن يضاعف من احتمالية تدهور أمراض وراثية أو مزمنة موجودة أصلًا. وفي حالة عبد الله، كان الأطباء يشتبهون بوجود خلل في الكبد أو الكلى، وربما مرض وراثي متكرر داخل العائلة.
البروفيسور عادل أبو هولي، اختصاصي طب الأطفال في غزة، قال في تصريح منشور: "في ظل غياب الفحوصات المتقدمة لا يمكن تأكيد التشخيص، لكن الأعراض تشير إلى وجود مرض استقلابي وراثي، وهو من الأمراض الشائعة نسبيًا في المجتمعات التي ينتشر فيها زواج الأقارب."
ما جعل حالة عبد الله تتفاقم لم يكن المرض وحده، بل غياب المتابعة الطبية المنتظمة. فحتى قبل الحرب الأخيرة، كان النظام الصحي في غزة يعاني من نقص حاد في الكوادر الطبية والأجهزة.
تقرير منظمة الصحة العالمية 2021 أشار إلى أن 40% من الأدوية الأساسية غير متوفرة بانتظام، و65% من أجهزة التشخيص المتقدمة معطلة بسبب الحصار ونقص قطع الغيار، و60% من الأسر لا تستطيع تغطية تكاليف العلاج الخاص.
ومع بداية الحرب الأخيرة وتدمير عشرات المستشفيات، أصبح الوصول إلى طبيب متخصص أو إجراء تحليل دم متقدم مهمة شبه مستحيلة، وبالتالي فقد عبد الله فرصة التشخيص المبكر، وهي الخطوة التي ربما كانت ستغير مسار قصته.
الإعلام الدولي ركز على مشهد عبد الله وهو يهمس لأمه: "أنا جعان". صورة مؤلمة تلخص معاناة غزة تحت الحصار. لكن تركيز القصة على "المجاعة" وحدها ظلم عبد الله وعائلته.
عبد الله لم يمت فقط بسبب نقص الطعام. كان هناك مرض داخلي مزمن ينهش كبده أو كليتيه. سوء التغذية فاقم الحالة، لكنه لم يكن السبب الوحيد. هذا يفتح الباب أمام سؤال جوهري: كم من الأطفال الذين يموتون في غزة اليوم يُسجل موتهم تحت بند "الجوع"، بينما السبب الحقيقي أعمق وأكثر تعقيدًا؟
«إن طاب هواك ذرّيه».. ثقافة الخصوبة
قصة عبد الله لا يمكن فصلها عن ظاهرة اجتماعية واسعة في غزة: زواج الأقارب. ففي غزة، حيث العائلات مترابطة والمساحة الجغرافية محدودة، ينتشر زواج الأقارب ففي كل مرة يتزوج فيها أبناء العمومة أو أبناء الخؤولة، تتضاعف احتمالية ظهور أمراض وراثية نادرة. أمراض الكبد والكلى تحديدًا ترتبط بكثير من الطفرات الجينية المتنحية.
وفقًا لدراسة منشورة عام 2022 في المجلة الفلسطينية للصحة العامة، تبلغ نسبة زواج الأقارب في القطاع حوالي 42%، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمعدل العالمي (12-15%). وتشير الأبحاث إلى أن هذه الظاهرة ترفع من احتمالية ظهور الأمراض الوراثية النادرة، مثل أمراض الدم (الثلاسيميا)، وبعض أمراض الكبد والكلى والجهاز العصبي.
وفي تصريح سابق لسناء القدرة، الباحثة في علم الاجتماع الطبي، علّقت على الظاهرة بقولها: "المجتمع الغزي يعتبر الزواج من داخل العائلة وسيلة لتعزيز الروابط الاجتماعية وتخفيف التكاليف، لكن الآثار الصحية الخطيرة غالبًا ما تُغفل أو تُتجاهل، خاصة في ظل ضعف التوعية الصحية."
إلى جانب العوامل الوراثية والحصار، هناك جانب آخر لا يقل أهمية، وهو إصرار كثير من العائلات في غزة على كثرة الإنجاب رغم الظروف القاسية. فمعدل الخصوبة في غزة يُعد من بين الأعلى عالميًا، وتشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن المرأة الفلسطينية تلد ما معدله 4 إلى 5 أطفال، وأحيانًا أكثر.
هذه الظاهرة ترتبط بجملة من العوامل الاجتماعية والثقافية والدينية؛ إذ يرى كثيرون أن كثرة الأولاد تمثل ضمانًا للمستقبل وحماية للعائلة والمجتمع، بل ويعتبرها البعض نوعًا من المقاومة الديموغرافية ووسيلة لمواجهة الفقد المستمر بفعل الحرب.
غير أن الأطباء وخبراء الصحة يحذرون من أن هذه المعدلات، مع استمرار نسب زواج الأقارب المرتفعة، تعني تزايد عدد الأطفال المولودين بأمراض وراثية، في وقت يعجز فيه القطاع الصحي عن الاستجابة. دراسة نشرت في مجلة لانسيت الطبية عام 2022 حول تأثير الحصار على غزة حذرت من أن "ارتفاع الخصوبة مع محدودية الرعاية الطبية يشكل وصفة كارثية لأجيال تعاني أمراضًا كان يمكن الوقاية منها".
حاضر مفتوح على المأساة
عبد الله لم يكن وحده. تقارير طبية وإنسانية توثق أن عشرات الأطفال في غزة يعانون من أمراض وراثية أو مزمنة، لا يجدون لها علاجًا مناسبًا. في كل بيت تقريبًا هناك قصة مشابهة، لكن ليس كل قصة تصل إلى الإعلام. كثيرون يرحلون بصمت، بينما تنشغل وسائل الإعلام بالأرقام الكبيرة للحرب والضحايا.
تقرير اليونيسف الصادر في 2023 أشار إلى أن واحدًا من كل خمسة أطفال في غزة يعاني من التقزم بسبب سوء التغذية المزمن، وحوالي 30% من وفيات الأطفال مرتبطة إما بضعف المناعة الناتج عن الجوع أو بأمراض وراثية لم تُشخص مبكرًا، كما أن غياب برامج الفحص الجيني وندرة مراكز الاستشارة الوراثية يجعل اكتشاف هذه الحالات شبه مستحيل.
ومع الحرب الأخيرة التي دمّرت المستشفيات في غزة. يصدر تقرير منظمة الصحة العالمية (يونيو/حزيران 2025) يؤكد أن 70% من المراكز الصحية توقفت عن العمل، وأن الأطفال هم الفئة الأكثر تضررًا، إذ فقدوا خدمات التطعيم والفحوصات الأساسية، كما أن نقص الأدوية والمكملات الغذائية جعل علاج الأمراض المزمنة والوراثية أمرًا مستحيلًا.
اليوم، حبيبة تعيش على أمل العلاج، لكن مصيرها غامض. الأطباء في غزة يحاولون بما لديهم من إمكانات محدودة، لكن الحقيقة أن إنقاذها يحتاج إلى نقلها خارج القطاع إلى مراكز متقدمة. ومع استمرار تعقيد الإجراءات، يبقى السؤال: كم طفلًا آخر سيعيش تجربة عبد الله قبل أن يجد العالم طريقة لوقف هذا النزيف الإنساني؟