النفوذ بالوكالة انتهى: روسيا ترسم ملامح حضور مباشر في أفريقيا
بينما يستمر القصف الروسي على أوكرانيا منذ عام 2022، تتجه موسكو بخطى واثقة نحو تعزيز وجودها العسكري المباشر في أفريقيا، متخلّية تدريجيا عن نموذج “النفوذ بالوكالة” الذي اعتمدته سابقا عبر مجموعات مرتزقة.
واليوم، تتبلور ملامح جديدة لإستراتيجية الكرملين: حضور رسمي مباشر، مدعوم بالأجهزة العسكرية والاستخباراتية الروسية، في قلب مناطق النزاع في أفريقيا جنوب الصحراء.
وتكشف بيانات وتحقيقات استقصائية عن حجم هذا التحول. فقد تتبعت وكالة أسوشيتد برس، من خلال صور أقمار اصطناعية وإشارات بحرية، قافلة شحن روسية أبحرت لمدة شهر من بحر البلطيق، محمّلة بأسلحة متقدمة، بينها مدافع هاوتزر، معدات تشويش، ودبابات ومركبات مدرعة.
ورست السفن في ميناء كوناكري، عاصمة غينيا، حيث جرى تفريغ الحمولة قبل أن تُنقل برا إلى مالي. وقد أظهرت الصور شاحنات مصطفة على الرصيف البحري، بينما وثّق مدونون قوافل مدرعات روسية تتجه عبر طريق “آر.أن 5” نحو باماكو.
وتقول الباحثة جوليا ستانيارد إن هذا النوع من الانخراط الميداني يمثل “تحولا نوعيا في الطريقة التي تدير بها روسيا علاقاتها الأمنية في أفريقيا. نحن نشهد تراجعا لنمط التعاقد الخاص، وبروزا واضحا لدور الدولة الروسية بمؤسساتها العسكرية. إنه ليس مجرد تغيير في أدوات التنفيذ، بل في طبيعة المشروع الروسي ذاته.”
تراجع نمط التعاقد الخاص وبروز دور الدولة الروسية بمؤسساتها العسكرية والاستخباراتية يعكسان تحولا جذريا في عقيدتها
وعوضا عن إرسال مرتزقة أو دعم أنظمة حليفة عبر شبكات غير رسمية، أنشأت موسكو ما يُعرف بـ”فيلق أفريقيا”، وهو وحدة عسكرية خاضعة لسيطرة وزارة الدفاع ومرتبطة بالاستخبارات العسكرية الروسية، وتحديدا الوحدة 29155 ذات السجل الطويل في العمليات السرية بأوروبا.
وتحل هذه القوة تدريجيا محل مجموعة فاغنر، التي كانت الأداة غير الرسمية الرئيسية لموسكو منذ 2017.
ويقول د. سامويل راماني، الباحث المتخصص في الشأنين الروسي والأفريقي، “روسيا تسعى من خلال هذا الفيلق إلى بناء نموذج دائم للنفوذ في القارة، يتجاوز تكتيكات المرتزقة قصيرة المدى. حضور موسكو لم يعد رد فعل على الانسحاب الغربي، بل هو مشروع إستراتيجي لإعادة التموقع العالمي.”
ولا ترسل المعدات التي تصل حاليا إلى أفريقيا، بحسب مسؤولين عسكريين أوروبيين، إلى الجيوش الوطنية فقط، بل بالدرجة الأولى إلى “فيلق أفريقيا”.
وتشير التقارير إلى أن روسيا زوّدت هذا الفيلق أيضا بقدرات جوية، بعدما رُصدت طائرة هجومية من طراز “سو – 24” في قاعدة باماكو الجوية.
ولتعزيز هذا الوجود، شرعت موسكو في تجنيد مقاتلين من الداخل الروسي بعقود رسمية، تشمل رواتب تصل إلى 2.1 مليون روبل (نحو 26.500 دولار)، مع منح أراض ومكافآت.
روسيا زوّدت "فيلق أفريقيا" بقدرات جوية، بعدما رُصدت طائرة هجومية من طراز “سو – 24” في قاعدة باماكو الجوية
وفي المقابل، أعلنت مجموعة فاغنر انسحابها من مالي بعد أيام على وصول دفعة جديدة من المعدات، في ما بدا كنقل منظم للمهام إلى الفيلق النظامي الجديد.
ويرى أندرو فاينبرغ، خبير الأمن الدولي، أن هذا التحول يمثل “خروجا روسيا من الظل في أفريقيا. لم تعد موسكو تنكر التورط أو تستخدم الغطاء الرمادي للمرتزقة، بل تُظهر أدوات الدولة صراحة، من الشحنات العسكرية إلى التنظيم الاستخباراتي والمرافقة البحرية. وهذا يخلق وقائع جديدة يصعب على القوى الغربية تجاهلها.”
وفي الوقت الذي تقلص فيه فرنسا والولايات المتحدة وجودهما في منطقة الساحل، تقدم روسيا نفسها كبديل جاهز، لا يكتفي بالدعم العسكري، بل يشترط مقابلا اقتصاديا.
وتسعى موسكو، من خلال علاقاتها الأمنية، إلى ضمان امتيازات في التعدين والطاقة، بما يؤمّن تمويلا مستداما لتوسعها العسكري.
ويشير تقرير للاتحاد الأوروبي إلى أن هذه العمليات غالبا ما تُموّل ذاتيا من استغلال الموارد الطبيعية، لا من خزينة الدولة الروسية.
وتلفت الباحثة كاثرين ستاسيفيتش إلى أن “فيلق أفريقيا ليس مجرد بديل لفاغنر، بل تطوير للنموذج. إنه يعكس رغبة الكرملين في تقنين وجوده وإخضاعه لهرم القيادة الرسمية. وبهذا يتحوّل الدور الروسي من مجرد داعم في نزاعات أفريقية إلى فاعل رئيسي يعيد هندسة النفوذ والسيادة.”
موسكو تسعى من خلال علاقاتها الأمنية إلى ضمان امتيازات في التعدين والطاقة، بما يؤمّن تمويلا مستداما لتوسعها العسكري
وتحذّر أصوات دولية من أن هذا النمط الجديد يعيد تشكيل توازن القوى في القارة.
ووفق جان باتيست غالوبان، المحلل السابق في الأمم المتحدة لشؤون الساحل، “تقدم روسيا نفسها كشريك موثوق لأنظمة عسكرية تشعر بالتخلي الغربي. غياب الشروط السياسية وملف حقوق الإنسان يجعل العرض الروسي جذابا لنخب حاكمة تبحث عن الدعم دون إملاءات.”
وفي ضوء هذا التحول، تبدو أفريقيا مرة أخرى ساحة لتنافس القوى الكبرى. لكن ما يميز الحضور الروسي في نسخته الجديدة، أنه ليس مجرد ارتداد تكتيكي عن الغرب، بل محاولة إستراتيجية لتثبيت دعائم نفوذ دائم، رسمي، ومرن في الآن نفسه.
ويعكس التحول الجاري في الإستراتيجية الروسية داخل أفريقيا أكثر من مجرد تبديل في الأدوات؛ إنه إعادة صياغة لعقيدة النفوذ في سياق عالمي متغير.
ولم تعد روسيا تكتفي بلعب دور “الفاعل غير الرسمي” في مناطق الهشاشة، بل باتت تستخدم أدوات الدولة التقليدية، لتكرّس حضورا مستداما في قلب النزاعات.
ويضع هذا الانخراط المباشر، الذي يجمع بين القوة الصلبة والطموحات الجيوسياسية، القارة الأفريقية في قلب معادلات التوازن الدولي الجديدة.
ومع انكفاء القوى الغربية، خصوصا فرنسا والولايات المتحدة، باتت العواصم الأفريقية أمام خيارات جديدة في شراكاتها الأمنية، تختلف من حيث الشروط، والآليات، والأهداف.
ومع تعزيز موسكو لقدراتها العسكرية عبر “فيلق أفريقيا”، تتحول ساحات مثل مالي إلى مختبر لنموذج روسي جديد في إدارة العلاقات الدولية، يتجاوز منطق التدخل بالوكالة إلى حضور مباشر مربوط بالمصالح الاقتصادية العميقة.
ويشير مراقبون إلى أن هذا المسار، إذا استمر، قد لا يعيد فقط رسم خارطة التحالفات في أفريقيا جنوب الصحراء، بل يعيد أيضا تعريف مفهوم النفوذ ذاته في عالم ما بعد القطبية الواحدة، حيث باتت أدوات الحرب، والاستخبارات، والموارد الطبيعية متداخلة في رسم معالم الجغرافيا السياسية المقبلة.