رودولف هس.. قصة النهاية المثيرة لأكثر رجالات هتلر غموضا
من «مهمة سلام» فردية إلى انتحار مشبوه داخل السجن، لا تزال الأسئلة تحوم حول وفاة أحد أبرز قادة الرايخ الثالث رودولف هس.
كان هس أكثر الرجال قربًا وثقةً لدى أدولف هتلر في بداياته. ومع توسّع الحزب النازي داخل ألمانيا ثم أوروبا، واندفاعه نحو الحرب العالمية الثانية، اتخذ هس قرارات أدت إلى تهميشه، ليجد نفسه منبوذًا من طرفي الصراع.
ورغم مرور عدة عقود على وفاته، لا تزال الأسئلة قائمة حول دوافع قراراته وحقيقة نهايته الغامضة.
البدايات.. من مصر إلى أوروبا
على الرغم من سمعته كقومي ألماني متعصب للوطن الأم والحزب النازي، لم يبدأ رودولف هس حياته في ألمانيا. فقد وُلد عام 1894 في إحدى ضواحي مدينة الإسكندرية المصرية، وكان والده تاجرًا ألمانيًا.
تلقى تعليمه في الإسكندرية، ثم نُقل إلى ألمانيا حيث التحق بالجيش عند اندلاع الحرب العالمية الأولى. وهناك، التقى بجندي في وحدته سيصبح لاحقًا أحد مهندسي الرعب في أوروبا: أدولف هتلر.
وبعد نهاية الحرب، ظل هس قريبًا من هتلر، وقام بتعيينه سكرتيرًا شخصيًا له عام 1920، ليصبح أيضًا عضوًا في الحزب النازي الناشئ آنذاك، والذي بدأ ينتشر تدريجيًا في أنحاء ألمانيا ويحظى بدعم شعبي.
صعود الحزب النازي إلى السلطة
وفي عام 1923، شارك هس وهتلر مع أعضاء آخرين في الحزب النازي بمحاولة انقلاب على حكومة بافاريا، عُرفت باسم انقلاب قاعة البيرة، لكنها فشلت، وسُجن العديد من المشاركين.
تم احتجاز هتلر وهس في سجن "لاندسبيرغ"، وهناك بدأ هتلر في كتابة كتابه الشهير كفاحي، وتولى هس مهمة كتابة معظم إملاءاته.
وخلال السنوات العشر التالية، صعد الحزب النازي إلى قمة السلطة، وتولى هتلر منصب المستشار عام 1933. واصطحب هتلر أصدقاءه القدامى معه إلى قمة السلطة، وكان رودولف هس أحد هؤلاء، فعُين نائبًا للفوهرر، مما جعله الثاني في ترتيب الخلافة بعد هيرمان غورينغ.
تغير المواقف
في سنوات حكم هتلر الأولى، كان هس من أشدّ الموالين والمقربين له. وقد دعم غزو بولندا وبارك قرارات هتلر العدوانية في أوروبا.
ومع أنه لا توجد أدلة مباشرة على تورطه في جرائم معسكرات الاعتقال أو المجازر في أوروبا الشرقية، إلا أن من المرجح أنه كان على علم بها.
لكن يبدو أن ضميره بدأ يؤنبه، فشعر بأن الأمور خرجت عن السيطرة. وفي عام 1941، اتخذ قرارًا غريبًا أدى إلى القطيعة التامة مع هتلر.
رحلة سلام فردية
في 10 مايو/أيار 1941، سرق هس طائرة من مطار قريب من ميونيخ في السادسة مساءً، وحلّق بها فوق نهر الراين وعبر بحر الشمال، في ليلة ضبابية دون مرافقين، معتمدًا على خرائط ومخططات طيران.
وصل إلى وجهته في اسكتلندا بحلول الساعة 10:30 ليلًا، لكنه لم يبلغ الهدف النهائي — قصر "دونغافيل"، مقر دوق هاميلتون — حيث نفد منه الوقود واضطر للقفز بالمظلة.
هبط في حقل زراعي يبعد نحو 12 ميلًا عن القصر، وأصيب فقط بالتواء في كاحله، حيث دعاه المزارع إلى منزله وقدّم له الشاي، ثم سلّمه للشرطة.
قدّم هس نفسه باسم "الكابتن هورن"، وأصرّ على مقابلة دوق هاميلتون. اختار هس هذا الدوق لأنه كان مسؤولًا بريطانيًا كبيرًا يُعرف بانفتاحه على السلام مع النازيين، على عكس رئيس الوزراء ونستون تشرشل.
وعندما قابل الدوق، كشف عن هويته الحقيقية، لكن هاميلتون لم يصدّقه في البداية. اتصل بالديوان الحكومي، حيث تم في البداية تجاهل الأمر، قبل أن يُطلب من نائب وزير الخارجية التحقق من هويته.
وبعد التأكد من هويته شرح هس أن مهمته كانت إقناع الحكومة البريطانية بأن النصر النازي حتمي، وأن الوقت قد حان للتفاوض.
وقال إن هتلر وافق ضمنًا، لكنه اعترف بأن الرحلة تمت دون علم الفوهرر، مما أفقده أي مصداقية. ورُفض عرضه للسلام، وسُجن في 16 يونيو/حزيران، وظل في حوزة البريطانيين حتى نهاية الحرب.
المحاكمة والسجن
بعد الحرب، نُقل هس من بريطانيا إلى ألمانيا للمثول أمام محاكمات نورمبرغ، حيث تعاونت القوى الأربع الكبرى لمحاكمة قادة النازية.
اتهم هس بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم ضد السلام. لم تثبت عليه الجرائم الأولى، إذ لم توجد أدلة كافية تربطه مباشرة بالفظائع، لكن أُدين بتهمة "الجرائم ضد السلام".
أشار القضاة إلى أن هس حاول تبرير الغزو الألماني وإلقاء اللوم على الحلفاء، وأقروا أن حالته النفسية تدهورت خلال المحاكمة، لكنها لم تكن عذرًا عند ارتكاب الجريمة.
وبينما أُعدم قادة نازيون آخرون، حُكم على هس بالسجن مدى الحياة.
وفاته والجدل حولها:
قضى رودولف هس بقية حياته في سجن شبانداو في برلين الغربية. ومع وفاة أو الإفراج عن باقي السجناء، أصبح السجين الوحيد في السجن لما يزيد عن عشرين عامًا.
رغم دعم بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لإطلاق سراحه في سنواته الأخيرة، رفض الاتحاد السوفياتي ذلك. وتوفي عام 1987 عن عمر ناهز 93 عامًا، وقيل إنه انتحر بشنق نفسه باستخدام سلك كهربائي في ساحة التمارين.
لكن البعض، بمن فيهم ابنه، ادعى أنه قُتل. رفض مسؤولو السجن هذه الادعاءات، ولم تظهر أدلة تؤيد فرضية القتل.
وعقب هدم سجن شبانداو بعد وفاة آخر نزلائه دُفن هس في مدينة فونسيدل الألمانية، لكن قبره أصبح مزارًا للنازيين الجدد، ما دفع السلطات المحلية لنقل رفاته، حيث أُحرقت ونُثرت في البحر، لتنتهي بذلك بقاياه الجسدية وسط إرث غامض يثير الجدل حتى اليوم.