السياسات النفطية صداع مزمن يسمم العلاقات بين بغداد وأربيل

وكالة أنباء حضرموت

في ظل الالتباسات الدستورية، وتضارب المصالح الاقتصادية، والطموحات الإقليمية، عادت أزمة النفط بين بغداد وأربيل إلى الواجهة، مهدّدة ليس فقط الاستقرار الاقتصادي والسياسي للعراق، بل وحدته الوطنية أيضا.

وما بدأ كخلاف حول تقاسم الإيرادات تحوّل اليوم إلى اختبار حاسم لمفهوم الشراكة الوطنية في عراق ما بعد 2003. ويشكك محللون في قدرة الوحدة الهشّة في بلد تمزّقه الصراعات الداخلية على الصمود.

منح الدستور العراقي لعام 2005 صلاحيات واسعة للأقاليم، لاسيما في المادة 112 التي تنص على إدارة مشتركة للحقول النفطية والغازية القائمة بين الحكومة الاتحادية وسلطات الإقليم. وتذهب المادة 115 إلى أبعد من ذلك، إذ تمنح الأسبقية لسلطات الأقاليم عند تعارض الصلاحيات.

لكن تباين تفسير هذه المواد أجّج سنوات من الجدل الدستوري، خاصة منذ أن بدأت حكومة إقليم كردستان توقيع عقود مستقلة مع شركات دولية عام 2007 وتصدير النفط عبر تركيا، متجاوزة بغداد تمامًا.

وفي فبراير 2022، قضت المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية قانون النفط والغاز في الإقليم، وأبطلت العقود المبرمة من قبل حكومة كردستان.

وردًا على ذلك، أوقفت تركيا تصدير النفط عبر خط جيهان، ما وجّه ضربة اقتصادية قاسية للإقليم، بلغت خسائره فيها، بحسب وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم، أكثر من مليار دولار شهريًا.

الحل المستدام يكمن في تجديد الحوار لينطلق من تشريع طال انتظاره لتنظيم قطاع النفط والغاز ما زال معلقًا منذ 2007

ورفضت حكومة الإقليم الحكم، واعتبرته ذا دوافع سياسية، مشيرة إلى أن المحكمة نفسها غير دستورية بعد عام 2005، وأكدت مجددًا حقها الدستوري في إدارة ثرواتها الطبيعية.

يعتمد أكثر من 85 في المئة من دخل الإقليم على النفط، ما جعل الصدمة الاقتصادية مدمّرة. وفي مواجهة الأزمة، أطلق رئيس الوزراء مسرور بارزاني إستراتيجية طارئة تهدف إلى حماية الإقليم من صدمات مستقبلية عبر تنويع الاقتصاد.

وفي مايو 2025، أشرف على توقيع اتفاقيتين في مجال الطاقة بقيمة إجمالية 110 مليارات دولار على مدار مدة سريانهما مع شركتي إتش.كيه.إن إنرجي وويسترن زاغروس الأميركيتين خلال زيارته لواشنطن.

واستثمرت الحكومة في السياحة والتراث والتكنولوجيا، فتم ترميم أكثر من 20 موقعًا أثريًا لجذب الزوار المحليين والدوليين. كما تم إدخال حوافز ضريبية وقروض صغيرة لدعم المشاريع الناشئة والصغيرة.

وقال أحد المستشارين الاقتصاديين في أربيل “كانت أزمة النفط بمثابة جرس إنذار قاسٍ، لكنها أجبرتنا على تصور اقتصاد قائم على الاعتماد الذاتي والاستدامة، لا يتقيد بأنابيب النفط.”

تصرّ بغداد على أن الموارد الطبيعية للعراق يجب أن تُدار مركزيًا لضمان توزيع عادل بين المحافظات. وفي المقابل، تتهم أربيل الحكومة الاتحادية بالتقصير المتكرر في تنفيذ التزاماتها المالية خلال فترات مركزية العوائد النفطية.

وقال متحدث باسم الحكومة الاتحادية “لا يمكن أن يكون هناك أكثر من مركز لسلطة النفط. هذه الثروات ملك لجميع العراقيين.”

وتردّ حكومة الإقليم بالقول “ما تحجبه بغداد عنّا من حقوق دستورية، سنستعيده عبر مواردنا الخاصة.”

والنتائج واضحة للعيان؛ المزيد من المعاناة بين عائلات كردستان، التي تُحرَم من رواتبها بسبب تأخر بغداد في صرف المستحقات. وكلما تفاقمت هذه المعاناة، كلما تعمّقت آثارها السلبية في العلاقة بين الطرفين.

وبلا شك، فإن مشاعر الغضب ستزيد الفجوة بين بغداد وأربيل. وحرمان الإقليم من حصته المشروعة في الموازنة لن يفضي إلا إلى المزيد من الانقسام. فعلى صنّاع القرار في بغداد أن يدركوا: الدول المنقسمة لا تصمد أمام اختبار الزمن. ورغم ذلك، لم يفت الأوان بعد للعودة إلى العقلانية.

ويؤكد محللون أن الحل المستدام يكمن في تجديد الحوار لينطلق من تشريع طال انتظاره لتنظيم قطاع النفط والغاز ما زال معلقًا منذ 2007.

وفي ظل ضغوط داخلية وتهديدات إقليمية، لم يعد التنسيق بين بغداد وأربيل ترفًا، بل أصبح ضرورة. غير أن غياب الثقة السياسية وتعطل تشكيل حكومة كردية جديدة بسبب الانقسامات الحزبية، ينذران بأن تتحول الأزمة الاقتصادية إلى أزمة أمنية. كما أن القوى الخارجية قد تجد في استمرار عدم الاستقرار فرصة لتعزيز نفوذها.

وقد بات واضحًا، خلال السنوات الأخيرة، أن استخدام النفط كسلاح بين “شريكين” مفترضين قد يكون أكثر زعزعة من السلاح ذاته.

ويعتمد مستقبل العراق -كدولة موحدة ومستقرة- على قدرته في تحويل هذا الصراع حول الموارد إلى إطار للتعاون الاقتصادي العادل، لا إلى ساحة صراع بين إرادات متناحرة.

وفي قلب الخلاف النفطي بين بغداد وأربيل يكمن إرث طويل من الشك المتبادل، تغذّيه تعقيدات سياسية وتاريخية عمرها عقود. فالعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان لم تُبنَ على أساس ثقة مؤسسية متينة، بل على تفاهمات ظرفية غالبًا ما انهارت عند أول اختبار حقيقي، لاسيما في أوقات الأزمات الاقتصادية أو التحولات السياسية الكبرى.

الدول المنقسمة لا تصمد أمام اختبار الزمن. ورغم ذلك، لم يفت الأوان بعد للعودة إلى العقلانية والحوار الجاد

وتاريخيا، ارتبطت مطالب الأكراد بالسيطرة على مواردهم بمرحلة ما قبل 2003، حين كان الإقليم يتمتع بحكم ذاتي شبه كامل تحت الحماية الدولية.

وبعد سقوط النظام السابق، اعتبر الدستور العراقي الجديد نافذة لتكريس تلك المكتسبات، لكن غياب قانون نفط موحد وتباين الرؤى حول الفيدرالية جعلا تلك النصوص الدستورية مادة نزاع لا أداة تنظيم.

كما ساهمت الحسابات الإقليمية والدولية في تعقيد المشهد. فقد فتحت علاقات أربيل المباشرة مع شركات الطاقة الكبرى ودول مثل تركيا بابًا للانتقادات من بغداد التي ترى في تلك الخطوات تهديدا لسيادة الدولة. وفي المقابل، يرى الإقليم أن المماطلة في صرف حصصه المالية تُستخدم كسلاح سياسي لتركيعه اقتصاديا.

ومما زاد الأمر تعقيدًا، أن الحكومات المتعاقبة في بغداد لم تعتمد سياسة واضحة أو مستقرة تجاه إدارة الموارد في الأقاليم، بل اتسمت غالبًا بالارتجال أو بردود الفعل المرتبطة بتوازنات اللحظة، في حين تعامل الإقليم مع ملف الطاقة على أنه ورقة تفاوضية حاسمة في علاقته مع المركز، وأحيانًا كأداة استقلال اقتصادي محتمل.

وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن ضرورة تشريع قانون ينظم قطاع النفط والغاز، فإن الانقسامات الحزبية والاصطفافات الطائفية حالت دون إنجازه، ما جعل كل طرف يملأ الفراغ التشريعي وفق تفسيراته الخاصة. والنتيجة: أزمة متجددة كلما تغيرت الحكومة أو اشتد الضغط الاقتصادي.

وخلف كل هذا، تكمن معضلة أعمق تتعلق بهوية الدولة العراقية نفسها: هل هي دولة مركزية بصلاحيات اتحادية واضحة؟ أم دولة لامركزية بخصوصيات إقليمية واسعة؟ طالما ظل هذا السؤال معلقًا، فإن كل برميل نفط قد يتحول إلى شرارة خلاف جديد.