الأزهر يلجأ إلى خطاب التكفير لرفض المساواة في الميراث
استدعت مؤسسة الأزهر في مصر تهمة الفكر التكفيري، التي ندر استخدامها ضد سلوكيات جماعة الإخوان وتنظيم داعش، لوأد دعوة أطلقها العالم الأزهري سعدالدين الهلالي للمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، مطالبا بأن يكون قرار المساواة نابعا من الشارع عبر استفتاء شعبي عام، لأن الميراث حق وليس فريضة مثل الصوم والصلاة.
وسارع مرصد الأزهر للفتوى الإلكترونية إلى إصدار بيان حاد ضد الهلالي، مستخدما توصيفات خشنة، مثل اتهامه بالفكر التكفيري ومحاولته اختلاق صراع بين الفقه والقانون، وهي ذات الذريعة التي استند إليها التكفيريون والمتطرفون في انتهاج العنف وتكفير المجتمع، مع أن الهلالي لم يطرح سوى فكرة لترك قرار المساواة في الميراث للشعب قائلا إن الإسلام بطبيعته لا يرفض المساواة ولا يُحرّمها.
وأكّدت دار الإفتاء المصرية، الاثنين، على رفض دعوى المساواة المطلقة في الميراث تحت لافتة التطوع أو الاستفتاء الشعبي، وأن التبرع الفردي “لا ينتج تشريعًا عاما يلغي أصل جواز التبرع ويجعله إلزاما قانونيًا، ولا خلاف بين العلماء في جواز تبرع الشخص لأخته أو غيرها من ماله أو نصيبه من الميراث، كما لا يوجد ما يمنع من تبرع الأخت لأخيها ومساعدته من مال الميراث أو غيره أيضًا.”
الأزهر لا يمانع في ترديد ما يشبه الخطاب الإخواني السلفي، حتى صار متهما بتقديم صورة غير صحيحة عن الإسلام الوسطي
جاء مقترح الهلالي في لقاء تلفزيوني مؤخرا قبل أن يرد عليه الأزهر بأن “تجديد علوم الإسلام لا يكون على الشاشات أو بين غير المتخصصين،” مع أن الهلالي سبق أن تولى عمادة كلية الدراسات الإسلامية في الأزهر ورئاسة قسم الفقه المقارن، لكنه اتُهم بمحاولة صناعة “تدين شخصي،” بالافتئات على الشرع والترويج لحالة تمرد شعبي على القوانين المنبثقة عن الشريعة لإعادة إنتاج أفكار تكفيرية منحرفة.
وفسّر العالم الأزهري كلامه بأن “المطالبة بالمساواة في الميراث ليست ممنوعة بنص صريح في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة، خاصة بين المتساوين في درجة القرابة، مثل الأخ والأخت، والقرار في نهاية المطاف يجب أن يكون شعبيا وليس قراره أو أيّ فرد آخر، وإذا اتفقت الأسرة على تقسيم التركة بالتساوي بالتراضي، فلا يوجد ما يمنعهم قانونا أو شرعا من ذلك، لأن مثل هذه التصرفات تُكرس التراحم.”
جاء بيان مرصد الأزهر ليرفض المقترح كليا بحجة أن النصوص المتعلقة بعلم الميراث في الإسلام “قطعية مُحكمة راسخة لا تقبل الاجتهاد أو التغيير بإجماع الصحابة والعلماء في كل العصور، وتناسب كل زمان ومكان وحال،” دون اكتراث بأن هناك نصا صريحا مفاده أن العلماء ورثة الأنبياء، وبإمكانهم التعديل في النصوص الفقهية بتغير الزمان والمكان والظروف، وهو ما استند عليه الهلالي في مقترحه.
وأقر الأزهر ضمنيا بأن تجديد الفكر وعلوم الإسلام متاح، رغم تأكيده أن نصوص علم الميراث قطعية، لكنه قصر مهمة التجديد على “العلماء الراسخين المشهود لهم بالديانة والتمكن،” في اعتراف يظهر الأزهر وعلماءه بأنهم قادرون على التجديد والتغيير والتطوير ويتعمدون تعطيل تلك الخطوة لأسباب تخصهم، ويتهمون أيضا من يحاول الاجتهاد والتفسير بما يخالف قناعاتهم بأنه جاهل ويروّج لأفكار تكفيرية.
وجزء من مشكلة الأزهر مع معارضيه أنه لا يُمانع في ترديد ما يشبه الخطاب الإخواني السلفي ليدافع عن التراث القديم بعصبية، حتى صار متهما أحيانا بتقديم صورة غير صحيحة عن الإسلام الوسطي المعتدل الذي يرفض التمييز والعنصرية ويقر المساواة دون قيود، بعكس الخطاب الأزهري الذي يميل إلى الاغتيال المعنوي ضد من يُحاول التفكير بشكل عصري وإن كان الداعي إلى التجديد يستهدف تحقيق المساواة.
ومن غير المتوقع أن يغير الأزهر موقفه من الميراث، كما فعل مع مقترح سبق وطرحه الرئيس عبدالفتاح السيسي بعدم الاعتراف بالطلاق الشفهي، ما يفرض على الحكومة دعم المجددين والتنويريين في مواجهة الاغتيال المعنوي الذي يقوده الأزهر، قبل أن يتحول إلى ما يشبه دولة داخل الدولة، على الأقل لتكون هناك مواجهة فكرية – دينية تدفع الناس إلى إعادة إعمال العقل بعيدا عن التشدد للماضي.
وكان لافتا أن مصريات من خارج الشريحة، التي دعمت الهلالي ضد خطاب الأزهر، رأين أن هذا أمر طبيعي مع شعور المرأة بأنها مستهدفة من رجال المؤسسة الدينية بفتاوى عفا عليها الزمن، منها ما يتضمن تحقيرا لدورها وتمييزا ضدها، رغم تأكيد الأزهر في بيانه أن التستر خلف لافتات حقوق المرأة للطعن في أحكام الدين هو حيلة مغرضة تدعو إلى استيراد أفكار غربية مشوهة.
واعتادت المؤسسة الدينية إحياء خطاب الإخوان والسلفيين وداعش حول “التشبه بالغرب” لوأد أيّ فكرة عصرية تستهدف إحداث تغيير في الواقع الاجتماعي، مع أن شيخ الأزهر أحمد الطيب عبّر عن امتعاضه الشخصي من التقدم الحاصل في بلدان أوروبية مقابل التخلف الذي تصاب به مجتمعات عربية، في تناقض واضح يشير إلى استخدام الغرب شماعة وفق ما تقتضيه المصلحة في خطاب الأزهر.
وكانت حُجة الهلالي أقوى عندما تطرق إلى أن المساواة في الميراث موجودة جزئيا في مصر، من خلال توريث المعاش بموجب تشريع قائم يتيح منح الذكر والأنثى نفس القيمة المالية من المعاش، بالتالي إذا كانت الشريعة تُحرّم في المطلق عدم المساواة، فلماذا يتساوى الذكر والأنثى في إرث بعينه دون تطبيق ذلك على باقي المواريث، ما رد عليه بنفسه بأن الأمر يحتاج إلى فهم صحيح وعدم فرض وصاية الدين على أحد.
واقترح الهلالي إجراء استفتاء شعبي أو حوار مجتمعي حول المساواة في الميراث، وإذا توافقت الأغلبية فإن الإدارة (السلطة) يمكنها التوجه لتغيير القانون بناء على هذا القرار الشعبي المتسامح، لافتا إلى أن الله لا يمنع أو يُحرّم التسامح الشعبي، والفهم الذي يُرضي الأغلبية هو الذي يجب العمل به، لأن هناك ممارسات واقعية في بعض الأسر المتراحمة تقوم بتقاسم التركة بالتساوي والتراضي، وهذا ليس ضد الشرع.
ورأى مناصرون للهلالي أن دعوته مبادرة مجتمعية وإنسانية لا تتعارض مع الدين، والهجوم عليه من جانب الأزهر قد يكون مقدمة لطلب محاكمته واتهامه بازدراء الدين الإسلامي، وتجييش الرأي العام ضده، كنوع من الاغتيال المعنوي الذي يستهدف القضاء على كل فكر مستنير يتحلل من هيمنة الوصاية الأزهرية.
وهناك فريق فسّر التصعيد الخشن ضد دعوة المساواة في الميراث على أنه محاولة لقطع الطريق مبكرا على إعادة إحياء ما حدث في تونس عامي 2017 و2018، عندما قاد الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي إصلاحات اجتماعية كان بينها المساواة في الإرث، ووقف ضدها الأزهر بخطاب حاد رافضا تمددها إلى مصر أو دول عربية أخرى، ثم يكرر نفس موقفه اليوم خشية أن تكبر الفكرة مثل كرة الثلج وتتحول من مقترح فردي إلى ظاهرة مجتمعية.
ويقول مراقبون إن مشكلة الأزهر أنه لا يستوعب خلفيات الاجتهاد المرتبط بالمساواة في الميراث، لأن الهلالي أو من يدعمونه من منظمات نسوية وحقوقية يحاولون إخراج القضية من فضائها الديني إلى دلالاتها المجتمعية، وأن مجرد التطرق إلى قضية المساواة بين الرجل والمرأة هو إقرار ضمني بعدم وجود المساواة من أصلها، وعلى الأزهر قبل أن يُكفّر فكر الداعين للمساواة التعامل مع الملف بمنظور إنساني.
ويشير المراقبون إلى أن مطلب المساواة في الميراث مسألة إنسانية تتجاوز المنظومة الفقهية التي صاغها علماء قدامى هم في النهاية بشر، وإن كانوا على صواب في صياغتهم لكنهم وضعوا تلك الصياغة وفق مقتضيات سياق تاريخي وثقافي قديم، وهناك مباركة دينية للناس بالتغيير لأنهم “أعلم بشؤون دنياهم،” ثم أن دور المرأة في الجاهلية ليست كتلك التي تساعد في بناء اقتصاد الدولة والأسرة بنفس أهمية الرجل.
جزء من مشكلة الأزهر مع معارضيه أنه لا يُمانع في ترديد ما يشبه الخطاب الإخواني ليدافع عن التراث القديم بعصبية، حتى صار متهما أحيانا بتقديم صورة غير صحيحة عن الإسلام الوسطي المعتدل
ولأن الكثير من رجال الأزهر يتمسكون بصيغة تحريم العمل على المرأة واختزال دورها كخادمة، يعتمدون نفس القاعدة القديمة في تفسير علم الميراث باعتبار أن قاعدة العمل حصرا على الرجال، لذلك “للذكر مثل حظ الأنثيين” دون محاولة لفهم واستيعاب تغير المجتمع وطبيعة العلاقات بين البشر وحالتهم الاقتصادية، وأن المرأة في سوق العمل باتت عنصرا أساسيا، تجلب مكاسب مالية تستحق عليها المساواة.
وتنظر حركات نسائية في مصر إلى أن عيّنة الهلالي من رجال الأزهر التنويريين، الأمل الأخير لتحرير المرأة من قيود التشدد الديني والاستسلام للنصوص القديمة التي كرست التمييز والعنصرية ضدها، وهذه الفئة من الأزهريين تعتبرها سيدات ورموز مجتمع ومفكرون وكتاب، الظهير الديني المعتدل الذي يدافع عن المرأة ويحصّنها من التحقير والإذلال والحط من شأنها، ومنع وصفها بأنها كائن من الدرجة الثانية.
كما أن الهلالي أو غيره ممن ينادون بالمساواة لا يطلبون إلغاء أحكام الشرع أو عدم الاعتراف بالنصوص القطعية حول المواريث، وكل ما في الأمر أنهم ينادون بترك الحرية قائمة على الاختيار بين التمسك بالتفسير الشرعي أو التوريث وفق التوافق البشري على المساواة بين الرجل والمرأة، ما يطرح تساؤلات حول الأسانيد الفقهية التي يرتكن إليها الأزهر لتحريم التوافق بين شريحة من الأسر على المساواة.
وقال عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عبدالغني هندي إن مقترح التساوي في الميراث يصعب تطبيقه لأنه ضد نص قرآني قاطع، وطرح فكرة الاستفتاء الشعبي على تكليف إلهي أمر غير واقعي، فلا يُمكن إجراء استطلاع أو استفتاء لتقليل عدد الصلوات أو أيام الصيام في شهر رمضان، وصاحب المقترح جانبه الصواب في هذا الطرح، لكن في النهاية مهم عقد مواجهة فكرية لحسم القضية لمنع تكرار هذا الجدل.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن المرأة تتساوى فعليا مع الرجل في الكثير من الحالات، بل قد تزيد عنه في الميراث، وهناك حالات بسيطة يكون للذكر مثل تصيب الأنثيين، وفي النهاية كل إنسان حر في ماله ولو منح الرجل لأخته كل شيء، أو أعطى الأب لابنته كل ميراثه، وهذا في حكم التنازل عن المال، ولا يجب تطبيق قاعدة أنتم أعلم بشؤون دنياكم مع نصوص قطعية محسومة بنصوص فقهية لم يخترعها الأزهر.
وتوحي النبرة الحادة للأزهر بأنه يخشى سحب المقترح الكثير من الاختصاصات المرتبطة بدوره كجهة دينية تحتكر شؤون المسلمين اليومية حتى تحولت إلى سلطات كهنوتية، ليذهب هذا الاختصاص إلى سلطة شعبية، بما يهدد نفوذه وحضوره المجتمعي القوي، وهذا دور يرفضه الهلالي وغيره من العلماء الذين يرفضون تحوّل مؤسسة الأزهر إلى متحدث باسم الإسلام أو تعتبر نفسها وكيل الله في الأرض.